المقالة الثانية :
طرح المشكلة :لقد شغلت العلاقةبين اللغة والفكر بال فلاسفة اللغة وعلمائها ؛ فاعتقد البعض منهم أن هناك تطابقمطلق بينهما ، ولاوجود لأفكارٍ لا تستطيع اللغة التعبير عنها ، واعتقد آخرون أنهناك انفصال بين اللغة والفكر ، مما يلزم عنه إمكان تواجد أفكار تعجز اللغة عنالتعبير عنها وتوصيلها للغير ، فهل فعلا يمكن أن يكون هناك فكارا بدون لغة ؟ بمعنىآخر : هل يمكن ان توجد افكار خارج حدود اللغة ؟
محاولة حل المشكلة :
1-أ- عرض الاطروحة :يرى بعضالمفكرين من أنصار الاتجاه الثنائي ، أنه لا يوجد تطابق وتناسب بين عالم الافكاروعالم الالفاظ ، فالفكر اسبق من اللغة واوسع منها ، وأن ما يملكه الفرد من افكارومعان يفوق بكثير ما يملكه من الفاظ وكلمات ، مما يعني انه يمكن أن تتواجد افكارخارج إطار اللغة . ويدافع عن هذه الوجهة من النظر الفلاسفة الحدسانيون أمثالالفرنسي " هنري برغسون " والرمزيون من الادباء والفنانين ، وكذا الصوفية الذينيسمون أنفسهم أهل الباطن والحقائق الكبرى .
1-ب- الحجة :وما يؤكد ذلك ، أنالانسان كثيرا ما يدرك كماً زاخراً من المعاني والافكار تتزاحم في ذهنه ، وفيالمقابل لا يجد الا الفاظا محدودة لا تكفي لبيان هذه المعاني والافكار. كما قد يفهمأمرا من الامور ويكوّن عنه صورة واضحة بذهنه وهو لم يتكلم بعد ، فإذا شرع فيالتعبير عما حصل في فكره من افكار عجز عن ذلك . كما قد يحصل أننا نتوقف – لحظات – أثناء الحديث أو الكتابة بحثا عن كلمات مناسبة لمعنى معين ، أو نقوم بتشطيب أوتمزيق ما نكتبه ثم نعيد صياغته من جديد ... و في هذا المعنى يقول " برغسون " : « إننا نملك افكارا اكثر مما نملك اصواتا » .
ثــم إنالالفاظ وُضعت – أصلا – للتعبير عما تواضع واصطلح عليه الناس بغية التواصل وتبادلالمنافع ، فهي إذن لا تعبر الا على ما تواضع عليه الناس واصطلحوا عليه ( أي مايعرفبالناحية الاجتماعية للفكر ) ، وتبقى داخل كل إنسان جوانب عميقة خاصة وذاتية منعواطف ومشاعر لا يستطيع التعبير عنها ، لذلك فاللغة عاجزة عن نقل ما نشعر بهللاخرين ، يقول " فاليري " : « أجمل الافكار ، تلك التي لا نستطيع التعبير عنها ». ولهذا تـمّ ابتكار وسائل تعبير بديلة عن اللغة كالرسم والموسيقى ..
وفضلا عن ذلك ، فإن الفكر فيض متصل من المعاني في تدفق مستمر ، أشبهبالسيل الجارف لا يعرف الانسقام او التجزئة ، وهو نابض بالحياة والروح أي " ديمومة " ، أما ألفاظ اللغة فهي سلسلة من الاصوات منفصلة ، مجزأة ومتقطعة ، ولا يمكنللمنفصل ان يعبر عن المتصل ، والنتيجة أن اللغة تجمد الفكر في قوالب جامدة فاقدةللحيوية ، لذلك قيل : « الالفاظ قبور المعاني » .
1-جـ- النقد :لكن القول ان الفكر اوسع من اللغة واسبق منها ليس الا مجرد افتراضوهمي ، فإذا كنا ندرك معانٍ ثم نبحث لها عن ألفاظ ما يبرر اسبقية الفكر على اللغة ،فإن العكس قد يحدث أيضا حيث نردد الفاظ دون حصول معانٍ تقابلها وهو ما يعرف في علمالنفس بـ " الببغائية " أفلا يعني ذلك أن اللغة اسبق من الفكر ؟ وحتى لو سلمنا – جدلا – بوجود اسبقية الفكر على اللغة فإنها مجرد اسبقية منطقية لا زمنية ؛ فالانسانيشعر أنه يفكر ويتكلم في آنٍ واحد . والواقع يبين ان التفكير يستحيل ان يتم بدونلغة ؛ فكيف يمكن ان تمثل في الذهن تصورات لا اسم لها ؟ وكيف تتمايز الافكار فيمابينها لولا اندراجها في قوالب لغوية ؟ ثم لو كانت اللغة عاجزة على التعبير عن جميعافكارنا فالعيب قد لا يكون في اللغة ، بل في مستعملها الذي قد يكون فاقد لثروةلغوية تمكنه من التعبير عن افكاره .
2-أ- نقيض الاطروحة :يعتقدمعظم فلاسفة اللغة وعلمائها من انصار الاتجاه الاحادي ، أن هناك تناسب بين الفكرواللغة ، وعليه فعالم الافكار يتطابق مع عالم الالفاظ ، أي ان معاني الافكارتتطابقمع دلالة الالفاظ ، ولا وجود لأفكار خارج اطار اللغة ، والى ذلك يذهب الفليسوفالفرنسي " ديكارت " والالماني " هيجل " والمفكر الانجليزي " هاملتون " وعالم النفسالامريكي " واطسن " ، الذين يؤكدون جميعهم أن بين اللغة والفكر اتصال ووحدة عضويةوهما بمثابة وجهي العملة النقدية غير القابلة للتجزئة ، باعتبار « ان الفكر لغةصامتة واللغة فكر ناطق . »
2-ب- الحجة :وما يثبت ذلك ، أن الملاحظةالمتأملة وعلم النفس يؤكدان أن الطفل يولد صفحة بيضاء خاليا تماما من أي افكار ،ويبدأ في اكتسابها بالموازاة مع تعلمه اللغة ، أي أنه يتعلم التفكير في نفس الوقتالذي يتعلم فيه اللغة . وعندما يصل الفرد الى مرحلة النضج العقلي فإنه يفكر باللغةالتي يتقنها ، فالافكار لا ترد الى الذهن مجردة ، بل مغلفة باللغة التي نعرفها ، » فـ« مهما كانت الافكار التي تجيئ الى فكر الانسان ، فإنها لا تستطيع ان تنشأ وتوجدالا على مادة اللغة » . وأنه حسب " هيجل " أي محاولة للتفكير بدون لغة هي محاولةعديمة الجدوى ، فاللغة هي التي تعطي للفكر وجده الاسمى والاصح .
ثـم إننا لا نعرف حصول فكرة جديدة في ذهن صاحبها الا اذا تميزت عنالافكار السابقة ، ولا يوجد ما يمايزها الا علامة لغوية منطوقة أو مكتوبة .
كما ان الافكار تبقى عديمة المعنى في ذهن صاحبهاولم تتجسد في الواقع ، ولا سبيل الى ذلك الا الفاظ اللغة التي تدرك ادراكا حسيا ،فاللغة – إذن – هي التي تبرز الفكر من حيز الكتمان الى حيز التصريح ، ولولاها لبقيكامنا عدما ، لذلك قيل : « الكلمة لباس المعنى ولولاها لبقي مجهولا . »
والنتيجة ان العلاقة بين اللغة والفكر بمثابةالعلاقة بين الروح بالجسد ، الامر الذي جعل " هاملتون " يقول : « إن الالفاظ حصونالمعاني . »
2-جـ- النقد :لكن ورغم ذلك ، فإنه لا وجود لتطابق مطلقبين الفكر واللغة ، بدليل ان القدرة على الفهم تتفاوت مع القدرة على التبليغ ، منذلك مثلا أنه اذا خاطبنا شخص بلغة لا نتقنها فإننا نفهم الكثير مما يقول ، لكننانعجز عن مخاطبته بالمقدار الذي فهمناه ، كما أن الادباء - مثلا - رغم امتلاكهملثروة لغوية يعانون من مشكلة في التبليغ .
3- التركيب :في الحقيقة أنالعلاقة بين اللغة والفكر علاقة ذات تاثير متبادل ، فكلاهما يؤثر في الآخر ويتأثربه ، لكن ورغم ذلك فإنه لا وجود لأفكار لا تستطيع اللغة أن تعبر عنها ، كما أنه – في نفس الوقت – لا وجود لألفاظ لا تحمل أي فكرة او معنى .
حل المشكلة :وهكذا يتضخ انه لا يمكن للفكر ان يتواجد دون لغة ولا لغة دون فكر ،على الاعتبار ان الانسان بشكل عام يفكر بلغته ويتكلم بفكره ، وهذا يعني في النهايةأنه يستحيل تصور وجود افكار خارج اطار اللغة .