أخترت لكم من كتاب الفلسفة لطلاب البكالوريا ، للأستاذ أوبليل
الموضوع:
ثانيا: أثناء الشروع في تحرير المقال:
1. طرح المشكلة:
أ/ المدخل: إذا كان الاستقراءالعلمي أو التجريبي ينصبُّ من جهة، على الكشف عن الظواهر ومعرفة أسبابها القريبة وصياغتها في قوانيــن، فإنّه من جهة أخرى، ينتقل فيه العالم من ملاحظة بعض العيّنات من الظاهرة الطبيعية إلى تعميم القوانين التي تحدّد صورتها وما يضمن مشروعية الانتقال من أحكام جزئية إلى أحكام كلِّية هو مبدأ الحتمية الذي ينص على أنّ الكون يخضع لنظام ثابت وعام . ومعنى ذلك، أن مبدأ الحتمية مبدأ مطلق يشمل جميع الظواهر الكونية، وهو ما قام يدافع عنه أنصار النظرية الميكانيكية التقليدية ..
ب/ المسار: غير أن التقدم العلمي الهائل والذي مكن العلماء من اقتحام عالم الذرة، وما انتهى إليه البحث العلمي في مجال الميكروفيزياء من نتائج، جعل الكثير من الفلاسفة والعلماء المعاصرين يراجعون حساباتهم ويعيدون النظر في مفهوم مبدأ الحتمية، بل أنَّ الأمرَ بلغ درجة رفض البعض لهذا المبدأ. والقول بمبدأ مخالف له وهو مبدأ اللاحمية .
ج/ السؤال: والحالة هذه، هل يمكن الجزم بأنّ مبدأ الحتمية مبدأ مطلق يقتضيه الاستقراء العلمي وضروري لتأسيس العلم ؟
2. محاولة حلّ المشكلة:
أ/ القضية: النظرية الميكانيكية التقليدية
1- منطقها: [ مبدأ الحتمية مطلق يقتضيه الاستقراء العلمي وضروري لتأسيس العلم ].
2- مسلماتها وما تستوجبه من قوانين:
ظل الكلاسيكيون ([1]) وإلى غاية مطلع القرن العشرين يعتقدون جازمين بأنَّ مبدأ الحتمية كوني، أي أنّه مطلق وعام باعتبار أن الظواهر جميعها سواء تلك المتعلّقة بالمادة الجامدة أو المادة الحية أو الظواهر الإنسانية تخضع لنظام ثابت لا يقبل الاستثناء أو الاحتمال أو الصدفة. والعلم في نظر هؤلاء يقوم أساساً على مبدأ الحتمية، وفي هذا يقول كلود بيرنار: « لابد من التسليم كبديهية تجريبية (= مبدأ الحتمية) ، بأنّ وجود كلّ ظاهرة [...] هي محدّدة تحديدا مطلقا . وما إنكار هذه القضيّة سوى إنكار للعِلم ذاته » .
وما يؤكد هذه الحقيقة ما وصل إليه العالم ((نيوتن)) من نتائج علمية دقيقة تتعلق بظاهرة السقوط الحرّ . لقد استطاع ((نيوتن)) بفضل دراسته لهذه الظاهرة أن يؤسس نظريته المشهورة في (الجاذبية)، وهي الأساس الذي أشيد عليه الميكانيك الكلاسيكي .
لقد نظر أصحاب النظرية الميكانيكية التقليدية إلى الطبيعة بما في ذلك الإنسان نظرة آلية ميكانيكية، فاعتبروا الطبيعة آلة وظواهرها الجامدة أو الحية أجزاؤها، وهي تعمل متفاعلة تفاعلا ميكانيكيا تمليه ضرورة عمياء مجهولة المصير. ومعنى ذلك، أن الظواهر يتحتَّم وقوعها متى توفرت أسبابها، فالظواهر مهما كانت متناهية في الكبر أو الصغر تسير بموجب قوانين ثابتة وصارمة . وعلى هذا الأساس يستطيع العلم توقع الظواهر قبل وقوعها والتنبؤ بها . وفي هذا الصدد يقول ((لابلاس)) : « لو أنّ عقلا عرف في لحظة ما جميع القوى الموجودة في الطبيعة، وعرف أحوال جميع الكائنات التي تتألف منها، وكان قويا إلى درجة أن يُخضِعَ جميع هذه المعطيات للتحليل، لأستطاع أن يحيط في صيغة واحدة بحركات أكبر الأجسام في الكون وبحركات أخف الذرات. فلا يرتاب في أي شيء . ويكون المستقبل والحاضر ماثلين أمام عينيه ([2]) » .
النتيجة: إذن، مبدأ الحتمية كوني والطبيعة تخضع لنظام ثابت وعام أي قوانين صارمة وثابت، والإيمان بالحتمية يبرِّرُ مشروعيةَ الاستقراءِ ويؤسسُ العلمَ .
ولكن، هل يمكن قبول هذا الطرح الذي تصور العَالَمَ كما لو كان آلةً ضخمة؟