المقالة الاولى:
I - طرح المشكلة :يعتبر الادراكمن العمليات العقلية التي يقوم بها الانسان لفهم وتفسير وتأويل الاحساسات بإعطائهامعنى مستمد من تجاربنا وخبراتنا السابقة . وقد وقع اختلاف حول طبيعة الادراك ؛ بينالنزعة العقلية الكلاسيكية التي تزعم ان عملية الادراك مجرد نشاط ذاتي ، والنظريةالجشطالتية التي تؤكد على صورة او بنية الموضوع المدرك في هذه العملية ، الامر الذييدفعنا الى طرح التساؤل التالي : هل يعود الادراك الى فاعلية الذات المٌدرِكة أمالى طبيعة الموضوع المدرَك ؟
II– محاولة حل المشكلة :
1- أ – عرض الاطروحة :يرى انصار النزعة العقلية أمثالالفرنسيان ديكارت و آلان و الفيلسوف الارلندي باركلي والالماني كانط ، ان الادراكعملية عقلية ذاتية لا دخل للموضوع المدرك فيها ، حيث ان ادراك الشيئ ذي ابعاد يتمبواسطة احكام عقلية نصدرها عند تفسير المعطيات الحسية ، لذلك فالادراك نشاط عقليتساهم فيه عمليات ووظائق عقلية عليا من تذكر وتخيل وذكاء وذاكرة وكذا دور الخبرةالسابقة ... ومعنى هذا ان انصار النظرية العقلية يميزون تمييزا قاطعا بين الاحساس والادراك .
1- ب – الحجة :ويؤكد ذلك ، ما ذهب اليه ( آلان ) فيادراك المكعب ، فنحن عندما نرى الشكل نحكم عليه مباشرة بأنه مكعب ، بالرغم اننا لانرى الا ثلاثة أوجه وتسعة اضلاع ، في حين ان للمكعب ستة وجوه و اثنى عشرة ضلعا ،لأننا نعلم عن طريق الخبرة السابقة أننا اذا أدرنــا المكعب فسنرى الاوجه والاضلاعالتي لا نراه الآن ، ونحكم الآن بوجودها ، لذلك فإدراك المكعب لا يخضع لمعطياتالحواس ، بل لنشاط الذهن واحكامه ، ولولا هذا الحكم العقلي لا يمكننا الوصول الىمعرفة المكعب من مجرد الاحساس .
ويؤكد ( باركلي ) ،أن الاكمه ( الاعمى ) اذا استعاد بصره بعد عملية جراحية فستبدو له الاشياء لاصقةبعينيه ويخطئ في تقدير المسافات والابعاد ، لأنه ليس لديه فكرة ذهنية او خبرة مسبقةبالمسافات والابعاد . وبعد عشرين (20) سنة أكدت اعمال الجرّاح الانجليزي ( شزلندن ) ذلك .
وحالة الاكمه تماثل حالة الصبي في مرحلةاللاتمايز ، فلا يميز بين يديه والعالم الخارجي ، ويمد يديه لتناول الاشياء البعيدة، لأنه يخطئ – ايضا – في تقدير المسافات لانعدام الخبرة السابقة لديه .
اما ( كانط ) فيؤكد ان العين لا تنقل نتيجةالاحساس الا بعدين من الابعاد هما الطول والعرض عند رؤية صورة او منظر مثلا ، ورغمذلك ندرك بعدا ثالثا وهو العمق ادراكا عقليا، فالعمق كبعد ليس معطى حسي بل حكمعقلي .
هذا ، وتؤكد الملاحظة البسيطة والتجربةالخاصة ، اننا نحكم على الاشياء على حقيقتها وليس حسب ما تنقله لنا الحواس ، فندركمثلا العصا في بركة ماء مستقيمة رغم ان الاحساس البصري ينقلها لنا منكسرة ، و يٌبديلنا الاحساس الشمس وكانها كرة صغيرة و نحكم عليها – برغم ذلك – انها اكبر من الارض .
كما تتدخل في عملية الادراك جملة من العواملالمتعلقة بالذات المٌدرِكة ؛ منها عمل التوقع ، حيث ندرك الموضوعات كما نتوقع انتكون وحينما يغيب هذا العامل يصعب علينا ادراك الموضوع ، فقد يحدث مثلا ان نرىانسانا نعرفه لكننا لا ندركه بسهولة ، لأننا لم نتوقع الالتقاء به . وللاهتماموالرغبة والميل دروا هاما في الادراك ، فالموضوعات التي نهتم بها ونرغب فيها و نميلاليها يسهل علينا ادراكها اكثر من تلك البعيدة عن اهتماماتنا ورغباتنا وميولاتنا . كما ان للتعود دورا لا يقل عن دور العوامل السابقة ، فالعربي مثلا في الغالب يدركالاشياء من اليمين الى اليسار لتعوده على الكتابة بهذا الشكل ولتعوده على البدءدائما من اليمين ، بعكس الاوربي الذي يدرك من اليسار الى اليمين . ثم انه لا يمكنتجاهل عاملي السن والمستوى الثقافي والتعليمي ، فإدراك الراشد للاشياء يختلف عنادراك الصبي لها ، وادراك المتعلم او المثقف يختلف بطبيعة الحال عن ادراك الجاهل . وفي الاخير يتأثر الادراك بالحالة النفسية الدائمة او المؤقتة ، فإدراك الشخصالمتفاءل لموضوع ما يختلف عن ادراك المتشاءم له .
1- جـ - النقد :ولكن انصار هذه النظرية يميزون ويفصلون بين الادراك والاحساس ،والحقيقة ان الادراك كنشاط عقلي يتعذر دون الاحساس بالموضوع اولا . كما انهم يؤكدونعلى دور الذات في عملية الادراك ويتجاهلون تجاهلا كليا اهمية العوامل الموضوعية ،وكأن العالم الخارجي فوضى والذات هي التي تقوم بتنظيمه .
2- أ – عرض نقيض الاطروحة :وخلافا لما سبق ، يرى انصار علم النفس الجشطالتي من بينهمالالمانيان كوفكا وكوهلر والفرنسي بول غيوم ، أن ان ادراك الاشياء عملية موضوعيةوليس وليد احكام عقلية تصدرها الذات ، كما انه ليس مجوعة من الاحساسات ، فالعالمالخارجي منظم وفق عوامل موضوعية وقوانين معينة هي " قوانين الانتظام " . ومعنى ذلكان الجشطالت يعطون الاولوية للعوامل الموضوعية في الادراك ولا فرق عندهم بينالاحساس والادراك .
2- ب – الحجة :وما يثبت ذلك ، ان الادراك عند الجميع يمربمراحل ثلاث : ادراك اجمالي ، ادراك تحليلي للعناصر الجزئية وادراك تركيبي حيث يتمتجميع الاجزاء في وحدة منتظمة .
وفي هذه العملية ،ندرك الشكل بأكمله ولا ندرك عناصره الجزئية ، فاذا شاهدنا مثلا الامطار تسقط ، فنحنفي هذه المشاهدة لا نجمع بذهننا الحركات الجزئية للقطرات الصغيرة التي تتألف منهاالحركة الكلية ، بل ان الحركة الكلية هي التي تفرض نفسها علينا .
كما ان كل صيغة مدركة تمثل شكلا على ارضية ، فالنجوم مثلا تدرك علىارضية هي السماء ، و يتميز الشكل في الغالب بانه اكثر بروزا ويجذب اليه الانتباه ،أما الارضية فهي اقل ظهورا منه ، واحيانا تتساوى قوة الشكل مع قوة الارضية دون تدخلالذات التي تبقى تتأرجح بين الصورتين .
ثم إنالادراك تتحكم فيه جملة من العوامل الموضوعية التي لا علاقة للذات بها ، حيث انناندرك الموضوعات المتشابهة في اللون او الشكل او الحجم ، لانها تشكل في مجموعها " كلا " موحدا ، من ذلك مثلا انه يسهل علينا ادراك مجموعة من الجنود او رجال الشرطةلتشابه الـزي ، اكثر من مجموعة من الرجال في السوق او الملعب .
وايضا يسهل علينا ادراك الموضوعات المتقارية في الزمان والمكان اكثرمن الموضوعات المتباعدة ، حيث ان الموضوعات المتقاربة تميل الى تجمع بأذهاننا ،فالتلميذ مثلا يسهل عليه فهم وادراك درس ما اذا كانت عناصره متقاربة في الزمان ،ويحدث العكس اذا ما تباعدت .
و اخيرا ، ندركالموضوعات وفق صيغتها الفضلى ، فندرك الموضوعات الناقصة كاملة مع نها ناقصة ، فندركمثلا الخط المنحني غير المغلق دائرة ، وندرك الشكل الذي لا يتقاطع فيه ضلعان مثلثابالرغم انهما ناقصان . ويتساوى في ذلك الجميع ، مما يعني ان الموضوعات المدرَكة هيالتي تفرض نفسها على الذات المٌدرِكة
2- جـ - النقد :ولكن الالحاحعلى اهمية العوامل الموضوعية في الادراك واهمال العوامل الذاتية لاسيما دور العقل ،يجعل من الشخص المدرك آلة تصوير او مجرد جهاز استقبال فقط مادامت الموضوعات هي التيتفرض نفسها عليه سواء اراد ذلك او لم يرد ، مما يجعل منه في النهاية مجرد متلقيسلبي منفعل لا فاعل .
3 – التركيب :ان الادراك من الوظائف الشديدة التعقيد ،وهو العملية التي تساهم فيها جملة من العوامل بعضها يعود الى
نشاط الذات وبعضها الآخر الى بنية الموضوع ، على اعتبار ان هناكتفاعل حيوي بين الذات والموضوع ، فكل ادراك هو ادراك لموضوع ، على ان يكون لهذاالموضوع خصائص تساعد على ادراكه .
III – حل المشكلة :وهكذا يتضح ان الادراك لا يعودالى فاعلية الذات فقط او الى بنية الموضوع فحسب ، من حيث انه لا وجود لادراك بدونموضوع ندركه ، على يكون هذا الموضوع منظم وفق عوامل معينة تسهل من عملية ادراكهوفهمه . لذلك يمكننا القول ان الادراك يعود الى تظافر جملة من العوامل سواء صدرتهذه العوامل عن الذات او عن الموضوع .