14_
الطريقة استقصاء بالرفع :
إنه ومما لاشك فيه إنه منذ بداية ظهور الإنسان على وجه الأرض وهو يتسأؤل على هذا العالم المجهول باحثا عن المعرفة بل المعارف المختفية وراء هذا الكون الكبير الذي خير المقولة كافة البشر و بالأخص الباحثين و العلماء اتجاه هذه المعرفة فهناك وجهات نظر متعددة من طرف الفلاسفة و المفكرين و العلماء حول مصدر المعرفة فهناك من يرجحها إلى العقل ( المقدرات الفكرية ) و هناك من يرجحها إلى التجربة (الواقع الحسي ) وإذا شهدنا شهادة صدقة حول ما قدامه التجريبيون بهذا المذهب اتجاه الثروات الفلسفية و العلمية التي قادوا بها هذا الكون قدما نحو الإمام و السؤال الذي يطرح نفسه هو : إلى إي حد يمكن إعتبارهذا القول صحيحا ؟ أو بعبارة أخره أدق : إلى أى مدى يمكن اعتبار التجربة مقياسا أساسيا للمعرفة الإنسانية الحق ؟
إن الإنسان في حياته اليومية يتعرض إلى معارف كثيرة ومتعددة فالإنسان يدرك بالحواس و هي عين الحقيقة و هي التي تبرهن على وجود عالم مستقل عن الذات و المعني الحقيقي لهذا الطرح هو أنه يقسم بالعمومية المطلقة فمثلا " معرفة التلاميذ للكتاب هي معرفة واحدة " و نحو هذا السياق من مؤيدي المذهب التجريبي الفيلسوف " جون لوك " الذي يرى بأن التجربة هي وحدها التي تنقش في عقولنا الأفكار و المعارف فالإنسان يلد صفحة بيضاء تنقش عليها التجربة ما تشاء و ذلك في قوله " لا توجد لمعرفة خارج الواقع و لا وجود لمبادئ أولية فطرية " ومثال ذلك أن الطفل لا يعرف النار إلا بعد لمسها . فالأحكام العقلية تتغير بتغير الزمان و المكان وتختلف
باختلاف ظروف الأعمال ومجالات البحث والمعارف المكتسبة وإذا انطلقا من مفهوم السببية يستوحي من التجربة لاحظ الإنسان في جميع الأجيال أن هنالك أشياء معلولة و أجرى عللا لها وربطوا الأولى بالثاني فتكون لنا مفهوم السببية إذن فالسببية تستوحي من التجربة و نجد في هذا السياق الفيلسوف التجريبي " فرانسيس بيكون " حيث يقول " إن المعرفة التي لا تستمد من التجربة ليست حقيقة " و نجد أيضا من الفلاسفة المؤيدين لهذا الموقف الفيلسوف " دافيدهيوم " الذي يصدق على أولية التجربة في مجال المعرفة الإنسانية و الذي يرى بأن المعرفة لا تستمد من التجربة و الواقع مجرد ظن حيث يقول "انه لولا الأصوات ما سمعنا و لولا الصور مار أينا و لولا الروائح ماشممنا " إذن فغياب الحواس يؤدي بطبيعة الحال إلى غياب المعرفة فالإنسان يدرك بالحواس فهي مفتاح معرفة لحقائق لأنه من فقد حاسة فقد المعاني المتعلقة بها فمثلا " البرتقال يصل إلينا لونها وشكلها عن طريق البصر
ورائحتها عن طريق الشم وذوقها عن طريق الذوق وملمسها عن طريق اللمس فجميع أفكارنا تتطور و تتسع مع ما نكتسبه من خبرة في حباتنا اليومية فلو كانت المبادئ الكلية موجودة و المعاني الفطرية كذلك لتساوى في العلم بها جميع المخلوقات و لكان بذلك الحيوان أحق بهذه المعارف فالمادة ( التجربة ) هي التي دفعت بالإنسان إلى الازدهار و التقدم عبر التاريخ منذ أستقر على وجه الأرض . . إذن فالعلم في جميع صوره يرتد إلى التجربة و منه فالتجربة تعتبر مقياسا لجميع المعارف الإنسانية الحقة .
لكن رغم أهمية التجربة كمقياس للمعرفة هناك رأي معارض و مخالف لهذا الموقف الأول و هو القائل بأن العقل هو المصدر الوحيد للمعرفة فمعرفة الإنسان لهذا الوجود وفق عقل يحرك كل شي . فهو الفور الذي يضئ الحياة و هو إن صح القول الحاكم في الأمور و الحاسم بين متناقضات الحياة فالله عز و جل أكرمنا بالعقول على سائر المخلوقات هذا دلالة على أن العقل هو ميزان معرفة صدق الأشياء فالعقل قوة فطرية لدى جميع الناس يتمهلون و يطمئنون إليها ونجد من الفلاسفة المودين لهذا الموقف و الذي يقول بأولية العقل كمصدر لجميع المعارف الفيلسوف الفرنسي " روينه ديكارت " الذي يعتبر قطب رئيسي للفلسفة الحديثة ولقد فجر العصر بمقولته المشهورة "أنا أفكر إذن أنا موجود " هذا الكوجيتو الديكارتي و الذي يرى بأنه لولا هذا العقل لما استطعنا معرفة حقيقتنا و حقيقة الموجودات بيننا فالعقل يعتبر هو المصدر للمعرفة أن الوحي يخاطب العقل ولا دين لمن لا عقل له . فالعقل يتأسس أصلا بالفطرة على مبادئ تعرف بالأوليات أو البديهيات وهي مبادئ يدركها المرء بمجرد تفتحه من غير حاجته إلى التجربة و لا يختلف فيها مع غيره من الناس لأنهم جميعا هذه المبادئ بالفطرة ومثال ذلك فكرة أن الله هو الخالق وكذلك مبدأ عدم التناقض ومبدأ الهوية و التعرف بين الخير والشر فجميعها تدرك بواسطة عقل مفكر و في هذا المعنى يقول "ديكارت " " العقل هو أحسن الأشياء بين الناس يتساوى بين كل الناس بالفطرة " وكذلك نجد من المؤيدين هذا الموقف الفيلسوف اليوناني" أفلاطون " الذي يقول " إن المعرفة تذكر " وما نفهمه من هذا التعريف حسب أفلاطون هو أن المعارف بمختلف أشكالها تذكر حيث أن الإنسان حينما كان في عالم المثل عرف هذه المعارف و لكن بعد أن جاء إلى عالم الواقع المادي نسي تلك المعارف و لكن سرعان ما يدركها بالذهن وحده دون أي واسطة من وسائط المعرفة فالعقل له القدرة على الاستدلال و البرهان أي له القدرة على استنباط القوانين ومثال ذلك التقدم الذي توصلنا إليه على مستوى العالم عبر الزمن و كذلك فالعقل يدرك الحقائق الكلية التي هي ضرورية وشاملة و الواقع يوحي الجزئيات التي تزودنا بها الحواس وأحكام العقل ككليات ولا يمكن للكلي أن يكون جزئي فالحواس لا تشكل لنا معرفة دون العقل لأنه لو كان ذلك لكان الحيوان أحق بهذه المعرفة . إذن فالحواس تخدعنا دون العقل المفكر وكذلك فإن الأخلاق تستمد قواعدها الأولى من العقل كمسألة التفريق بين الخير و الشر و الحق و الباطل و العدل و الظلم و الحقائق الالاهية كفكرة أن الله هو الخالق لأنه في طبيعة العقل الخير ما يجعله خيرا و لا يمكن للإرادة البشرية إن تغيره في شي . وكذلك فالأوليات الرياضية و المنطقية تنشأ بالعقل عن طريق الحدس كما يقول "أفلاطون " " لا يطرق بابنا من لا يعرف الرياضيات " فالحدس هو نور فطري غريزي يمكن من إدراك فكرة ما إدراكا مباشرا وهو لا يقوم على اختبار تجريبي ولا تأمل عقلي ولا يعتمد كذلك على الحواس ولا التجربة ففكرة اللانهائي ووجود الله تعالى تعرف عن طريق الحدس فقط و من مؤيدين المذهب العقلي الفرقة الإسلامية "المعتزلة " في قولهم " المعارف كلها بقوله بالفعل واجبة بنظر العقل ..." ومن هنا ندرك أن العقل هو المقياس الأساسي و الوحيد لهذه المعارف .
حقيقة إنه من باب الموضوعية و الصراحة الفكرية القول بأن التجربة هي أساس المعارف الإنسانية إلا أن للتجربة سلبيات و عيوب كم لها إيجابيات فالتجربة أو الفلسفات المادية و التجريبية و الحسية قد أهملت الجانب الديني و الأخلاقي إلى درجة كبيرة كما قدمت المادة إلى درجة تفوق القدرات المعرفية فهذه الفلسفات نظرت للإنسان نظرة أعرج فالتجربة لا تستطيع أن تستنبط القوانين أي لا تملك القدرة على الاستدلال و البرهان و كذلك فالتجربة تقوم على الجزء أمل التعميم هو كلى و من المعرفة إن التعميم أساس يركز عليه المنهج التجريبي فالحواس لا تشكل لنا معرفة دون عقل مدبر و مفكر و منه فالتجربة " المذهب التجريبي " لا يعتبر مقياسا للمعارف
الأسنانية و كذلك إذا كانت المعرفة تصورات عقلية كلية كما يقول العقلانيون في حين أن الواقع متغير فكيف للجزئي أن يعطي جزئي كما أن العقل في المعرفة يعتمد في معرفة الأشياء على مبادئ وهو ما الثبات للحقائق العلمية في حين أن الواقع متغير فكيف للمتغير أن يكون ثابت إذن فالفلسفات التجريبية لا تستطيع أن تعطى لنا معرفة دون العقل المفكر و منه فالتجربة لا تعتبر مقياسا أساسا للمعرفة الحقة .
نستنتج من هنا أن موقف التجربتين لا يستطيع أن يقف أمام النقد وهو ما يؤكد تطور المعرفة فالتجربة في ذاتها متغيرة بينما الحقائق العلمية ثابتة و منه فالفلسفات العقلانية هي التي تعبر عن المعرفة الحقيقية .