الحق والواجب … والحقوق الطبيعية
"حقوق الإنسان" مفهوم حديث نسبيا إذ يرجع إلى الربع الأخير من القرن الثامن عشر. ولكن جدة المفهوم لا تعني بالضرورة جدة مضمونه. إن حقوق الإنسان كمضمون سابقة لظهور هذا المفهوم وذلك بقرون وقرون، بل يمكن القول إن عبارة "حقوق الإنسان" كمضمون ترجع إلى ذلك الوقت الذي ظهر فيه كل من مفهوم "الإنسان" و"مفهوم "الحق"، وهو وقت لا يمكن تحديده ولا تخمين بداية له. إن ظهور مفهوم "الإنسان"، بأية لغة كانت، لا بد أن يكون متأخرا بما لا يقاس عن وجود الإنسان؛ ذلك أنه يتطلب وجود لغة يُمارَس فيها التجريد، وبالتالي يتطلب مستوى من التفكير يتم فيه التمييز بين الإنسان وغيره من الكائنات. وهذا التمييز يتطلب وعيا بالفوارق، كأن يعي الإنسان الفرق بينه وبين الحيوانات الأخرى، فيعطي لنفسه "الحق" في القيام بأمور معينة وينزع من نفسه الحق في القيام بأمور أخرى ولا بد من المرور عبر مراحل أعلى من التطور لكي ينقل الإنسان هذا التمييز إلى المستوى البشري نفسه، فيعطي الإنسان لنفسه "الحق" في أمور ويحجب هذا "الحق" نفسه عن غيره من بني جلدته. ولا بد أن يكون القوي –في البداية على الأقل- هو الذي يعطي الحق ويمنعه، وقد قيل بحق في المثل السائر: "إن حجة الأقوى هي الأفضل دائما". ومع ذلك فلا بد أن تكون هناك ردود فعل، و لابد أن تكون ردود الفعل التي تأتي احتجاجا على ذلك من أهم الوسائل التي عملت على إضفاء نوع من النظام على "حق الأقوى" هذا، وذلك بإقرار أنواع من التبرير لكل من العطاء والمنع. ومن هنا سينشأ "القانون" الذي يوزع "الحقوق" و"الواجبات" وينظمها.
والغالب أن فكرة "الحق" قد ظهرت هي وفكرة "الواجب" في وقت واحد وذلك لعلاقة التلازم والتضايف القائمة بينهما، وهي علاقة ما زالت حية قائمة في معاجم اللغة التي تعنى بالبحث في أصل الكلمات. ففي اللغة العربية يرتبط مفهوم "الحق" بـمفهوم "الواجب" ارتباط تناوب وتلازم، ولا يتخصص معنى أي منهما إلا بحرف الجر. وهكذا فـالفعل: "حق له" يفيد معنى "وجب له"، تماما مثلما أن "حق عليه" هو بمعنى "وجب عليه"، أو ثبت عليه. وأغلب ما ورد في القرآن من فعل "حق" جاء متعديا بحرف "على" ليفيد ثبوت الشيء ولزومه ووجوبه. من ذلك مثلا قوله تعالى: "وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فـحق عليها القول فدمرناها تدميرا" (الإسراء 16)، وأيضا: "ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المِؤمنين" (الروم 47). ويشرح الزمخشري هذه الآية بقوله: "حيث جعلهم (يعني المؤمنين) مستحقين على الله أن ينصرهم، مستوجبين عليه أن يُظهِرهم ويظفرهم" ويورد في هذا المعنى حديثا للنبي (ص) جاء فيه: "ما من امرئ مسلم يرد عن عرض أخيه إلا كان حقا على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة" وفي حديث آخر أن الرسول سأل معاذا: "يا معاذ هل تدري ما حق الله على عباده وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا". وواضح أن هذا النوع من التلازم والتناوب بين "الحق" و"الواجب" يفيد أن ما يجب على طرف هو حق للطرف المقابل: فما يجب على الله هو حق للإنسان، وما يجب على الإنسان هو حق لله.
وعلى هذا المنوال تم ترتيب العلاقة بين حقوق الحاكم وحقوق المحكومين فما يجب على "الراعي" هو حق للرعية عليه، وما يجب على الرعية هو حق للراعي عليها والحق الذي يتردد في هذا المجال هو حق العدل وحق الطاعة: من حق الرعية أن يعدل فيها الراعي ومن حق الراعي أن تطيعه الرعية؛ فالعدل حق للراعية وواجب على الراعي، أما الطاعة فهي واجبة على الرعية وحق للراعي. والعدل على مستوى علاقة الراعي بالرعية يقتضي الجمع بين الاثنين بحيث يكون عدل الراعي بمثابة تعويض لطاعة الرعيةومثل هذا يقال في ترتيب العلاقة بين الحق والواجب على مستوى العلاقة بين الناس: فالقيام بما يفرضه الواجب قد يكون شرطا في التمتع بالحقوق، والتمتع بالحقوق يفرض القيام بواجبات. والمسألة في نهاية التحليل مسألة معاملة بالعوض، وبالتالي مسألة تعامل تجاري: "مقايضة" ذلك أن "الحق" بهذا المعنى هو دوما حق لـفلان على فلان: حق لـ "البائع" على "المشتري" أو حق لـ "المشتري" على "البائع". وسواء ذكر الطرفان معا أو ذكر أحدهما فقط فالعلاقة مع ذلك تبقى ثابتة، علاقة مبادلة.
كان قصدنا من الملاحظات السابقة الوصول إلى السؤال التالي الذي ينقلنا إلى موضوعنا، أعني خصوصية مفهوم "الحق" في عبارة "حقوق الإنسان":
هل نستطيع الوصول إلى "حقوق الإنسان" بمفهومها المعاصر من هذه الطريق التي سلكنا لحد الآن؟ وبعبارة أخرى: كيف يمكن انتشال مفهوم "حقوق الإنسان" من ميدان النسبي والتفكير فيه في فضاء المطلق؟
لقد انطلقنا في التفكير في مفهوم "حقوق الإنسان" تحت سلطة وتوجيه فكرة "الحق والواجب"؛ ومع أنه بالإمكان الاسترسال في التنظير للحق والواجب على المستويين القانوني والأخلاقي فإن ما تقدم يكفي لجعلنا ندرك أنه يصعب جدا، إن لم يكن يستحيل، الوصول من هذا الطريق إلى مفهوم "حقوق الإنسان"!