18
الرياضيات علم عقلي مجرد يقوم على الاستنباط والبرهان و يختلف بذلك عن العلوم التجريبية التي تقوم على التجربة غير أن الرياضيات اليوم تحتل الصدارة بين العلوم فهي الأساس الذي تعتمد عليه جميع أنواع العلوم و التي لا تستطيع الاستغناء عنها و أكتسب قيمة كبيرة ففي ماذا تتمثل هذه القيمة ؟ إذا عرفنا أن الرياضيات علم مجرد لايدرس بتساؤل إلى أي مدى يمكن أن نتحدث عن قيمة الرياضيات ؟
تدرس الرياضيات المفاهيم الكمية المجردة القابلة للقياس بطابع عقلي بحت الأمر الذي مكنها من الوصول إلى نتائج دقيقة وواضحة تنتج عن المقدمات بطريقة مما يضفي عليها نوعا منا لصرامة المنطقية التي تقوم العقل و تجعله لا يقع في الخطأ 4 = 2+2 و أن 2 = 1+1 كانت 4= 1+1+1+1 الضرورة هذه الصرامة التي تجعل الرياضيات تمتاز بشكل ملحوظ غير أنها من العلوم غير أن قيمة الرياضيات لم تبرز بالشكل الذي نعرفه اليوم . إلا بعد دخولها لعالم الطبيعة و أصبحت القوانين الفيزيائية تصاغ على شكل علاقة رياضية . هذه الدقة التي تعتبر شرط المعرفة العلمية يرجع تاريخ دخول الرياضيات مجال الفيزياء إلى القرن السابع عشر بفضل أعمال "تيبلار " الذي حسب حركة المريخ فوجده يرسم شكلا الذي صاغ قانون سقوط الأجسام و "ديكارت " الذي قدر حركة الكواكب تقديرا كميا حينها أدرك الإنسان أنه لن يمكن من الغوص في أعماق الطبيعة للكشف عن أسرارها إلا إذا تعمل معها بلغة رياضية يقول " غاليلي " " الطبيعة لا تجيب إلا عن الأسئلة المطروحة عليها
بلغة رياضية " . "إن الرياضيات عنده هي للغة التي تفهمها الطبيعة و بدون الرياضيات ليس هناك مجال للحديث عن الفيزياء هكذا يقول " برا نشفيك " إذا فقدت الفيزياء طابع التقدير الكمي للظواهر صارت مجرد إحساس بكيفيات قابلة للوصف لا غير " فالفيزياء عنده بدون رياضيات تصف ظواهرها بالوصف الأدبي و ليس علميا و كذلك دخلت الرياضيات مجال الكيمياء على يد الكيميائي الفرنسي " لافوازي " و مجال البيولوجيا على يد " مندل " حيث وضع قوانين الوارثة و أصبحت البيولوجيا لا تستعمل الرياضيات فحسب
إن النجاح الكبير الذي أحرزته علوم المادة في إستجلاص العلاقات بصيغ كمية مكنها من التحكم في الكثير من الظواهر مما جعل العلوم الإنسانية بدورها تعمل على إدخال الرياضيات مجالها لتقترب من الدقة التي تمكنها من الانضمام إلى مجموعة العلوم فاستخلصت قوانين صاغتها على شكل معادلات رياضية أو مخططات بيانية أو نسب مئوية كما نرى في الإحصاء الذي يعتمد عليه الباحثون في علم الاجتماع لا أحد يستطيع أن يفكر اليوم و نحن في القرن الواحد و العشرين القيمة الكبيرة للرياضيات التي مكنتها من احتلال مكانة الصدارة في العلوم و المعارف جميعها و كانت ثقة الإنسان في الرياضيات كوسيلة لبلوغ الحقيقة التي حلم بها طويلا لا يتخللها شك أو ريب بفضل لغة الإعداد . وما تمتاز به من الدقة إن التقدم المذهل و النجاح الكبير للتكنولوجيا المعاصرة في حضارتنا المادية ليس إلا برهانا على صحة الرياضيات و عنوان صدقها مما يمكننا من القول مع " برانسفيك " " إن العمل الحر و الخصب للفكر يبدأ من العصر الذي جاءت فيه الرياضيات فزودت الإنسان بالمعيار الصحيح للحقيقة " لا يستعمل الإنسان الإعداد في العلوم و التكنولوجيا فقط و إنما يستعملها أيضا في الحياة اليومية ليكون أكثر دقة و انضباطا و أصبحت مقولة" الفيتاغوريين " الإعداد تهيمن على العالم " ليست خيالا و إنما واقعا يعيشه الإنسان يجعله يعترف بقيمة الرياضيات و فضلها عليه . إن الإنسان لا يدرس الرياضيات كغاية و إنما يدرسها كوسيلة تستعملها العلوم بعد كشفها عن العلاقات بين الظواهر لتعبر عنها بعد ذلك بأسلوب الكم لنقل إن الرياضيات وسيلة العلوم لا ينفي عنها كل قيمة في ذاتها فإن الرياضيات تعتبر محق و أفضل علم يعلم العقل كيف يجر و أفكاره و يقدمها في تسلسل منطقي محكم فتعرف الإنسان بخفايا عقله و قدرته على الغوص في أعماق العالم المجرد و إذا كانت العلوم تعلما حقيقة الطبيعة فإن الرياضيات تعلمنا حقيقة الفكر فالرياضيات هي لغة العصر و هي الدقة التي تتكلم بها العالم في الوقت الحالي و لا يمكن التخلي عنها في سعي الإنسان إلى معرفة الحقيقة فالعلوم قد أكسبت الرياضيات قيمة و من يمكننا القول بأن الرياضيات وسيلة من وسائل العلوم الأخرى أي أن جميع أنواع العلوم تستعمل لغة الرياضيات .
كما مكنا سابقا فالرياضيات هي آلة لجميع العلوم في شتى المجالات إما عن التهمة التي وجهت إليها على أنها مجرد قضايا عقلية مجرد بعيدة عن الواقع فيمكن لنا ردها عن طريق الأمثلة 2 = 1+1 و فكرة أن مجموع زوايا المثلث تساوي 180 و فكرة الإشكال الهندسية هل نعيد في معرفتها على الواقع لا بل نعتمد على التفكير أو على عقل مدبر و في هذا الصدد يقول " ..." " إن التصورات الرياضية تتمثل ككائنات عقلانية يصغها العقل في تلاؤم مع طبيعة الكون ". و هكذا نستنتج أن الرياضيات وسيلة أكثر مما هي غاية إن كانت تفيد الإنسان كغاية فإنها تفيده أكثر كوسيلة تستعملها العلوم للكشف عن أسرار الطبيعة و بلوغها الحقيقة فإذا كانت الرياضيات قد أكسبت العلوم قيمة بفضل أسلوبها الدقيق. فإن العلوم قد أكسبت الرياضيات قيمة كلغة لا يمكن التخلي عنها في سعي الإنسان نحو الحقيقة.