* تعتبر التجرية مقياس اساسي نحكم به على " علمية " أي معرفة منالمعارف ، ومن المعلوم ان الرياضيات علم عقلي بحت ، مجرد تماما عن ماهو محسوس ،لذلك فهي لا تقدم أي معرفة تجريبية ، والسؤال الذي يطرح هنا ؛ فيم تكمن قيمةالرياضيات اذا كانت لا تقدم أي معرفة تجريبية ؟
1-إن موضوع الرياضيات هو الكمياتالعقلية المجردة ، التي تتميز بالثبات والاستقلالية عن الواقع المحسوس ، ولغتهاالرموز من ثوابت ومتغيرات ، وليست ألفاظ اللغة العادية التي تتصف بالغموض والابهام . ومنهجها الاستدلال العقلي ذو الطبيعة الاستنتاجية – الافتراضية ، يراعي فيهالرياضي عدم تناقض النتائج مع ما يفترضه من قضايا أولية دون الرجوع الى الواقعالحسي . كما توصف الرياضيات بالخصوبة نظرا لتعدد فروعها ( كالجبر ، الهندسة ،الهندسة التحليلية ، نظرية المجموعات ، حساب الاحتمالات .. ) وتعدد انساقها ( كنسقاقليدس ، نسق لوباتشوفسكي ، نسق ريمان .. ) دون ان يكون هناك تناقضا بين هذه الفروعوالانساق . كماتعودخصوبتها الى طبيعة البرهان الرياضي ، فهو – بخلاف القياس الارسطي – يتميز بخاصيتيه التركيبية والتعميمية ، حيث ننتقل فيه من البسيط الى المركب ومنالخاص الى العام .
2-ان الرياضيات وان كانت منالعلوم التجريدية فهي لغة العلوم التجريبية ، وتكمن قيمتها في استعانة العلومالتجريبية بها في صياغة نتائجها . حيث ان العلوم على اختلافها – سواء الطبيعية منهاالتي تدرس المادة الجامدة او الحية ، أو الانسانية التي تدرس الانسان ومختلف مواقفه – تسعى الى استخدام الرياضيات في مباحثها ومناهجها وصياغة نتائجها ..
ولقد كانت الرياضيات حتى القرن 17 م منفصلة عنالعلوم ، وحينئذ تبيّن – كما قال " غاليلي " – أن : « الطبيعة مكتوبة بلغة رياضية » ، ومادامت الطبيعة – التي هي موضوع العلم – مكتوبة كذلك – فإنه لا يصلح لفهمالعلاقات التي تربط بين ظواهرها الا استعمال لغة الرياضيات ، التي هي – حسب " بوانكاري " – « اللغة الوحيدة التي يستطيع العاِلم أن يتكلم بها » .. وهكذا بدأتالرياضيات تغزو العلوم .
فلقد صاغ " غاليلي " قانونسقوط الاجسام صياغة رياضية ( ع = ½ جxز2 ) ، وكذلكفعل " نيوتن في قانون الجاذبية ، لتعرف الفيزياء بعدها استعمالا واسعا للرياضيات ،كما هو الحال في قوانين السرعة والتسارع و حركة الاجسام .
هذا ، وقد حسب " كبلر " حركة كوكب المريخ حسابا رياضيا ، ليعرف علمالفلك – هو الاخر – استعمال لغة الرياضيات ، كحساب حركة الكواكب والظواهر مثلالكسوف والخسوف والمواقيت ..
إضافة الى ذلك ، فإنالكمياء إبتداءً من " لافوازييه " أصبحت تعبر عن تفاعل العناصر و عمليات الاكسدةوالارجاع في شكل معادلات رياضية ، كما أصبح العنصر الكميائي يعرف بوزنه الذري ..
والامر نفسه في البيولوجيا ، لاسيما استخدامالاحصاء الرياضي مثلما فعل " مندل " في قوانين الوراثة . والواقع اليومي يكشف عناستعمال واسع للرياضيات في البيولوجيا ، وتحديدا في ميدان الطب ، حيث تكمم دقاتالقلب وعدد كريات الدم ونسبة السكر ومعدل الضغط ...
ولم يقتصر استعمال الرياضيات على العلوم الطبيعية المادية فحسب ، بلتعداه الى العلوم الانسانية ؛ فلقد تمكن علماء النفس الالمان " فيبر " و " فيخنر " من صياغة قانون رياضي للاحساس هو قانون العتبة المطلقة والعتبة الفارقة . كما وضعالفرنسي " بيني " مقياسا رياضيا عاما لدرجة الذكاء ونسبته ، هو العمر العقلي مقسوماعلى العمر الزمني مضروبا في 100 . و ذات الامر في الاقتصاد والجغرافيا البشرية ؛حيث يستعمل الاحصاء وحساب الاحتمالات والتعبير عن النتائج في شكل معادلات رياضيةومنحنيات بيانية ودوائر نسبية .
3-و تكمن قيمة الرياضيات في كونهاساهمت في تطور العلوم ، من مجرد وصف كيفي للظواهر يعتد على اللغة العادية المبهمةالى تحديد كم دقيق لها ؛ فالعلوم لم تبلغ الدقة في فهم ظواهرها ومن ثــمّ التنبؤبها ، الا بعدما صارت تصوغ نتائجها صياغة رياضية .
هذا من جهة ، ومن جهة فإن الرياضيات تهيئ للعلم المفاهيم التي يقومعليها، مثال ذلك ان " نيوتن " اقتبس مفهوم المكان من المكان الحسي عند " إقليدس " ،ولولا هندسة " ريمان " لما كانت نسبية " إنشتاين " .
ومن جهة ثالثة ، فإن الرياضيات تسمح باكتشاف القوانين العلمية دونالحاجة الى المرور بالملاحظة والتجربة ، مثال ذلك أن حساب العالم " لوفيريي " لكوكب " أورانيوس " أدى الى اكتشاف كوكب " نيبتون " ، كما وصل العالم " ماكسويل " الىاكتشاف الموجات الكهرومغناطيسية ووضع لها أربع معادلات رياضية أحاطت بخواصها منحسابات رياضية خالصة ، ولم يتحقق منها العلماء تجريبيا الا بعد مرور ثمانين – 80 – سنة .
* وهكذا يتضح ، أن للرياضيات قيمة كبرىباعتبارها لغة العلوم الحديثة ، فهي وإن كانت لا تقدم أي معرفة تجريبية ، فإنهااللغة التي تستخدمها هذه العلوم في التعبير عن نتائجها . فالرياضيات تمثل نموذجاللوضوح ومعيارا للدقة واليقين وطريقا للابداع ، وهو ما يهدف كل علم الى بلوغه .