منظمة التجارة العالمية (WTO)
--------------------------------
29963.gif
في أعقاب الحرب العالمية الثانية، شهد العالم العديد من المشكلات الاقتصادية. ولجأت الدول المنتصرة، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، إلى فرض هيمنتها على نُظُم التجارة العالمية. ورغبة منها في إعادة ترتيب الأوضاع الاقتصادية الدولية ترتيباً، يخدم مصالحها وأولوياتها، تقدمت الحكومة الأمريكية باقتراح للبدء في مفاوضات تجارية دولية، تستهدف تحرير التجارة الدولية من القيود المفروضة عليها. وحؤولاً دون تكرار الكساد الاقتصادي، الذي حاق بالعالم، في أوائل الثلاثينيات من القرن العشرين، أُنشئت اتفاقية الجات General Agreement on Tariffs and Trade GATT، التي تعني الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة ؛ لتقود العالم إلى الانتعاش الاقتصادي والرخاء، ولتكوِّن هي و صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي للإنشاء وإعادة الإعمار، مثلث الدعائم الأساسية للاقتصاد العالمي.
ومن المعروف أن قواعد النظام العالمي، وُضعت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، عام 1945، بناءً على اتفاقية (بريتون وودز)[1]، التي أنشئ بموجبها صندوق النقد الدولي، ليتولى وضع القواعد التي تحكم سلوك كلّ دولة في أسعار الصرف، وسياسة ميزان المدفوعات، ووسائل تمويل العجز الخارجي، على النحو، الذي لا يلحق الضرر بالبلاد الأخرى، ولا يعارض معايير الاستقرار الاقتصادي والتنمية. ثم أُنشئ البنك الدولي للإنشاء وإعادة التعمير، في ديسمبر 1945، ليتولى مساعدة الدول الأعضاء، وخاصة تلك النامية، من خلال تقديم قروض طويلة المدى، لتمويل المشروعات اللازمة لعملية التنمية، وتشجيعها على تطبيق السياسات الاقتصادية، التي تكفل الاستخدام الأمثل للموارد.
ولكي تستكمل أركان النظام الاقتصادي العالمي، بدأ التفكير في إنشاء منظمة التجارة الدولية، لكي تعمل على تنمية التجارة بين البلاد الأعضاء، وتضع قواعد السلوك والمعايير، التي تحكم هذه التجارة. وفعلاً، أصدر المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة، بناءً على مقترح أمريكي، توصية بعقد مؤتمر دولي للتجارة والتوظيف، في لندن، عام 1946. ولقد عُقد المؤتمر فعلاً؛ واستكمل أعماله، في جنيف، عام 1947؛ ثم اختتمها، في هافانا Havana، عاصمة كوبا، في عام 1948. وقد صدر عن اجتماعه الأخير وثيقة، عُرفت باسم "ميثاق هافانا" أو ميثاق التجارة الدولية، الذي حاول وضع أُسُس التوصل إلى اتفاقية للتجارة الدولية، والعمل على إنشاء منظمة التجارة العالمية.
وكان هدف مؤتمر هافانا هو العمل على إنشاء منظمة التجارة الدولية، بجانب صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي؛ ليكوِّن هذا الثالوث المؤسسات الدولية، التي تشرف على الاقتصاد العالمي، في المجالات: النقدية والمالية والتجارية. غير أن هذا التصور، لم يُكتب له النجاح، بعد أن رفض الكونجرس الأمريكي التصديق على ميثاق هافانا؛ على الرغم من أن انعقاده، كان بمبادرة أمريكية. واستمر هذا الموقف الأمريكي الرافض حتى عام 1950، إلى أن رفضت الإدارة الأمريكية رسمياً التصديق على الوثيقة، وخاصة الجزء الخاص بإنشاء منظمة التجارة الدولية؛ وذلك خشية أن تنتقص هذه المنظمة من سيادة الولايات المتحدة الأمريكية على تجارتها الخارجية. ومن ثَم، سقطت فكرة منظمة التجارة الدولية؛ لاستحالة تحققها من دون المشاركة الأمريكية، التي كانت تمثل، حينذاك، ما يقرب من نصف الناتج القومي العالمي.
بيد أن بعض الدول الصناعية، ومن بينها الولايات المتحدة الأمريكية، وعدداً محدوداً من الدول النامية، رأت أن ما لا يُدرك كلّه، لا يُترك جلّه. ومن ثَم، قررت أن تأخذ من ميثاق هافانا ذلك الجزء، الذي يتعلق بتحرير التجارة الدولية، وأن تضعه موضع التنفيذ؛ وهكذا كانت الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة، أو الجات.
اطرد نمو اتفاقية الجات، فاتسع نطاق عضويتها، ليشمل 105 دول، تسيطر على أكثر من 90% من حجم التجارة السلعية الدولية؛ إضافة إلى 34 دولة أخرى، تطبق مبادئ الجات أحكامها في سياساتها الخارجية، من دون أن تكون أعضاء فيها.
ولما كان الغرض الأساسي من إبرام الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة (الجات)، هو تحقيق قدر متزايد من حرية تدفق التجارة الدولية وسهولته، فقد كان من الضروري، تحقيقاً لهذا الهدف, إجراء سلسلة من المفاوضات، في جولات متعاقبة، تشارك فيها الدول الأعضاء في الاتفاقية، بغرض توسيع نطاق المشاركة، وحجم التخفيضات الجمركية المتبادلة بين الأطراف المتعاقدة. وقد أُجريت ثماني جولات في مفاوضات متعددة الأطراف، لتحرير التجارة الدولية. وكانت كالتالي:
1. الجولة الأولى: عُقدت في جنيف (سويسرا)، في أكتوبر 1947، بمشاركة 23 دولة. ووُقعت خلالها اتفاقية الجات، التي دخلت حيز التنفيذ عام 1948.
2. الجولة الثانية: عُقدت في مدينة نيس (فرنسا)، عام 1949، بمشاركة 13 دولة. وتمخضت بتخفيض التعريفة الجمركية لأكثر من 500 سلعة.
3. الجولة الثالثة: عُقدت في منتجع توركواي (إنجلترا)، عام 1951، بمشاركة 38 دولة.
4. الجولة الرابعة: عُقدت في جنيف (سويسرا)، عام 1956، بمشاركة 26 دولة.
5. الجولة الخامسة: (جولة ديلون)[2]. عُقدت في جنيف (سويسرا)، بين عامَي 1960-1961، بمشاركة 26 دولة. وقد ركزت في تبادل التخفيضات الجمركية.
6. الجولة السادسة: (جولة كنيدي)[3]، عُقدت في طوكيو (اليابان)، وبدأت عام 1964، وانتهت عام 1967. وفيها أُقر عدد آخر من التخفيضات في التعريفة الجمركية. وشارك فيها 62 دولة.
7. الجولة السابعة: (جولة طوكيو)، عُقدت في طوكيو (اليابان)، وبدأت عام 1973، واختتمت عام 1979. وشارك فيها اثنتان ومائة دولة.
8. الجولة الثامنة والأخيرة: كانت في أوروجواي (الأرجنتين)، وبدأت عام 1986، وانتهت عام 1994. وشارك فيها 124 دولة. وأسفرت عن اتفاقية لتحرير التجارة العالمية، معلنة نشوء منظمة التجارة العالمية (WTO)، خلفاً للاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة (GATT). وعلى الرغم من أن هذه الجولة هي الثامنة في سلسلة الجولات، التي عُقدت في إطار الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة؛ إلا أنها اكتسبت، دون سائر نظيراتها، مكانة خاصة، وأهمية بالغة. وتُعَدّ نتائجها من أهم ما توصلت إليه "الجات"، منذ إنشائها، عام 1947، في معظم جوانب التجارة الدولية، في السلع والخدمات، وحقوق الملكية الفكرية، وقوانين الاستثمار، والقواعد العامة للتجارة الدولية.
وفي 15 أبريل 1994، شهدت مدينة مراكش، بالمغرب، عقد مؤتمر[4]، أُعلن فيه الانتهاء الرسمي لأطول جولة وأنجحها للمفاوضات التجارية، في إطار الجات، لتحرير التجارة الدولية، والتي عُرفت باسم "جولة أوروجواي". أقرت إنشاء كيان دولي جديد، يتمتع بالشخصية المعنوية المستقلة للمنظمات الدولية، هو "منظمة التجارة العالمية" (WTO)، التي نيط بها الإشراف على الاتفاقيات كافة، التي أسفرت عنها جولة "أوروجواي"، والتي ناهزت 28 اتفاقاً وبروتوكولاً وقراراً وزارياً، وُضعت في صورة ملاحق للاتفاقية المنشئة لمنظمة التجارة العالمية، المعروفة باسم "اتفاقية مراكش". ويرجع وضعها على هذه الصورة إلى الأخذ بمبدأ الارتباط أو الصفقة الواحدة، ومعنى ذلك، أن الدولة التي توافق على اتفاقية مراكش (الاتفاقية الأمّ)، تصبح مرتبطة بالاتفاقية الملحقة كافة، من دون حاجة إلى توقيع كلّ اتفاقية بمفردها.
ومع نشوء منظمة التجارة العالمية، اختفت "اتفاقية الجات"، لتحل محلها تلك المنظمة الجديدة، التي اكتسبت صلاحيات التفتيش في الدول الأعضاء كافة؛ ضماناً لحرية التجارة، ومحاربة لأي سياسات حمائية. وخُوِّلت إشرافاً على تنفيذ القوانين الخاصة بالقضايا التجارية، هو أشمل من إشراف الجات، مثل قضايا الملكية الفكرية، والخدمات والاستثمار. كما فُوِّض إليها أمور فض المنازعات التجارية، وتنظيم المفاوضات الدولية، لتحقيق المزيد من تحرير التجارة العالمية، وتوسيع قاعدة التبادل التجاري للسلع والخدمات.
ويُعَدّ إنشاء منظمة التجارة العالمية من أهم الأحداث التي شهدها القرن العشرون؛ فهي تمثل إحدى الدعائم الأساسية لنظام التجارة العالمي، وتشارك كلاً من صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، في إرساء قواعد النظام الاقتصادي العالمي. وتعمل المنظمة من خلال هيكل تنظيمي، يشتمل على رئاسة، تتكون من المجلس الوزاري، والمجلس العام؛ وتتفرع منهما مجالس نوعية، ولجان متخصصة. ويتألف المجلس الوزاري من ممثلي جميع الأعضاء. ويجتمع مرة على الأقل كلّ سنتيَن. ويضطلع بمهام المنظمة. وله صلاحية اتخاذ القرارات في جميع الموضوعات، التي تنص عليها الاتفاقيات التجارية المختلفة.
ولقد عقد المجلس الوزاري لمنظمة التجارة العالمية، منذ نشأتها وحتى اليوم، أربعة مؤتمرات: عُقد أولها في سنغافورة، في الفترة من 10 إلى 13 ديسمبر 1996، واتسم بتقييم عمل المنظمة؛ ثم عٌقد الثاني في جنيف، في مايو 1998؛ وعُقد الثالث في سياتل، في الفترة من 30 نوفمبر إلى 3 ديسمبر 1999؛ وعُقد الرابع في الدوحة، في الفترة من 9 إلى 14 نوفمبر 2001.
[1] بريتون وودز: اسم المدينة الأمريكية التي شهدت توقيع الاتفاقية.
[2] جولة ديلون: نسبة إلى وزير تجارة الولايات المتحدة الأمريكية الذي يمثل دولته وكان المحرك الأساسي للمفاوضات.
[3] جولة كنيدي: نسبة إلى رئيس الولايات المتحدة الأمريكية الذي دعا إلى انعقادها عام 1964.
[4] شارك في مؤتمر مراكش الذي أُعلن فيه قيام "منظمة التجارة العالمية"، وزراء مالية واقتصاد 117 دولة.