نقاط البحث
تناول ـ بتوفيق الله تعالي ـ طب هذا المرض في النقاط التالية:
أ) أعراض الحسد.
ب)مخاطر الحسد.
ج) المصابون بالحسد.
د) أسباب الحسد.
ه) علاج الحسد.
وذلك على النحو الذي تطالعه ـ شفاني الله وإياك منه ـ في الصفحات التالية:
أعراض الحسد
أن يكره الحاسد: نعمة المحسود، وأن يتمني زوالها من صاحبها.
كما أن الحاسد: يتحسر لوجود الخير عند غيره، وأيا كان هذا الخير، وأيا كانت هذه النعمة.
ويقول ابن المقفع: يصاب الحاسد... بطول أسف، ومخالفة كآبة ، وشدة تحرق.
كما أنه: لا يبرح ناقما على نعمة الله عند المحسود، ويكدر على نفسه، فلا يجد للنعم عنده طعمًا، ولا معها راحة،ولا يزال ساخطًا على من لا يترضاه، ومتسخطا لما لن ينال فوقه.
فهو : منغص المعيشة، دائم السخطه، محروم الطلبة.
لا بما قسم له يقنع، ولا على ما لم يقسم له يقدر ويغلب[ابن قتيبة..عيون الأخبار 2/9 (بتصرف)].
وقال بعضهم: الحاسد ..عدو مهين، لا يدرك غرضه إلا بالتمني.
وقال الأحنف: لا صديق لملول، ولا وفاء لكذوب، ولا راحة لحسود، ولا مروءة لبخيل، ولا سؤدد لسيئ الخلق]ابن قتيبة..عيون الأخبار 2/9 (بتصرف)].
ومما ينبغي أن يلاحظ جيدًا : أن هنا فرقا بين الحسد وبين عدة أمور ، هي:
الغبطة،والمنافسة ،وعين الحسود.
أ) فأما الغبطة: فهي أمر محبوب مطلوب.
حيث يتمني المؤمن ـ في الغبطة ـ أن يكون لديه ما لدي أخيه المسلم من خير وفضل، دون تمني زوال هذا الخير أو هذا الفضل من عند أخيه صاحب هذه النعمة ]رائد فؤاد ..الأمراض القلبية 48] .
يقول الحبيب صلي الله عليه وسلم:"لا تحاسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن، فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، فهو يقول: لو أني أوتيت مثل ما أوتي هذا...لفعلت مثل ما يفعل.
ورجل آتاه الله مالاً، فهو ينفقه في حقه، فيقول: لو أوتين مثل ما أوتي...عملت فيه مثل ما يعمل]رواه: البخاري..ك:التوحيد ـ والفظ له ـ باب : قول النبي صلي الله عليه وسلم " رجل أتاه الله ..الخ"].
ب)وأما المنافسة: فهي طلب التشبه بالأفاضل، من غير إدخال ضرر عليهم.
وهي: داعية إلى اكتساب الفاضل، والاقتداء بأخيار الفضلاء.
يقول الشاعر:
نافس على الخيرات أهل العلا فإنما الدنيا أحاديث
كل امرئ في شأنه كادح فوارث منهم وموروث
ج) وأما عين الحسود: فلها حديث خاص آخر في كتيب مستقل من هذه السلسلة.
مخاطر الحسد
ولأن الحسد: داء وبيل، ومرض ذميم...!!
ولأنه من أوصاف اليهود
ود كثر من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارًا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق)[البقرة:109].
ولأن رب العزة ...قد علمنا الاستعاذة به سبحانه منه، وجعله آخر الشرور ـ التي نستعيذ منها ـ لخطورته، في قوله تعالي: (قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق * ومن شر غاسق إذا وقب * ومن شر النفاثات في العقد * ومن شر حاسد إذا حسد)[سورة الفلق]...!
ولأن النبي صلي الله عليه وسلم.. حذر منه وأبعد أمته عنه، في قوله صلي الله عليه وسلم:"إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا،ولا تحاسدوا،ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا"]البخاري..ك:الأدب، مسلم..ك: "البر والصلة" واللفظ لمسلم]...!!
وفي قوله صلي الله عليه وسلم :"دب إليكم داء الأمم، الحسد والبغضاء، هي الحالقة.
لا أقول : تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين.
والذي نفسي بيده: لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا.
أفلا أنبؤكم بما يثبت ذلكم لكم...؟
أفشوا السلام بينكم.."]الترمذي: ك: صفة القيامة ، وله شواهد تحسنه، أنظر جامع الأصول].
* * *
لهذا وغيره...
كان من اللازم... أن نبين بعض مخاطره؛ رجاء الوقاية منه، والعلاج له.
ومن هذه المخاطر:
1- أنه يؤذي صاحبه، قبل أن يؤذي غيره.
حيث يصيبه: بالحسرة على فوات نعمة المحسود منه وتخطيها له، بالكآبة والشعور بالحرمان من دون أصحاب النعم، وعدم الرضا بما أنعم الله عليه به منها.
يقول معاوية رضي الله عنه:ليس في خصال الشر أعدل من الحسد، إذا هو ـ أي الحسد ـ يقتل الحاسد قبل أن يصل إلى المحسود.
ويقول ابن المقفع: لم نر ظالما أشبه بمظلوم من الحاسد، طول أسف، ومحالفة كآبة.
ويقول: الحاسد...منغص المعيشة، دائم السخطه، لا بما قسم له يقنع، ولا على ما لم يقسم له يقدر.
والمحسود: يتقلب في فضل الله، مباشرًا للسرور، منتفعًا به، ممهلاً فيه إلى مدة لا يقدر الناس لها على قطع أو انتقاص.
وقد أدرك هذا ابن المعتز..
فقال:
أصبر على كيد الحسود فإن صبرك قاتله
2- الاعتراض على الله تعالي.
حيث إن الحسد..نوع من الاعتراض على أفعال الله تعالي، واتهام الله عز وجل في حكمته العالية،وتطاول إلى مقام يجب على المؤمن أن يقف دونه..موقف الأدب والرضا والتسليم.
إذا هو: يتنافى مع الإيمان.
لذلك: هو الإيمان لا يجتمعان في قلب عبده.]عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني ..الأخلاق الإسلامية 1/804 وما بعدها].
يقول صلي الله عليه وسلم:"لا يجتمعان في قلب عبد:الإيمان والحسد"]النسائي ، وقال الألباني : حسن].
ولذلك يقول الشاعر الحكيم:
أيا حاسدًا لي على نعمة أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله في حكمه لأنك لم ترض لي ما وهب
فأخزاك ربي بأن زادني وسد عليك وجوه الطلب
وهذا الاعتراض يؤدي بالضرورة إلى:
سخط الله عليه، ومقته له، ومن سخط الله عليه: أسخط عليه خلقه، فلا يجد فيهم محبا، ولا بينهم صديقًا ولا منهم ناصر ووليًا...بل يصير عندهم عدوًا، وعنهم مبعدًا مطرودًا.
يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:]ابن عبد ربه...العقد الفريد2/320، وما بعدها] لا تعادوا نعم الله.
قيل له: ومن يعادي نعم الله...؟
قال: الذين (يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله)[النساء: 54].
وقال بعض الحكماء: ما أمحق للإيمان ، ولا أهتك للستر..من الحسد.
وذلك: أن الحاسد... معاند لحكم الله، باغ على عباده، عات على ربه، يعد نعم الله نقما، وعدل قضائه ظلمًا.
للناس حال وله حال... لا يهدأ ليله، ولا ينام جشعه، ولا ينفعه عيشه.
محتقر لنعم الله عليه، متسخط لما جرت به أقدارهن لا يبرد غليله ولا يؤمن غوائله.
إن سالمته: أصابك بالمكروه.
وإن أصلته: قطعك.
وإن قطعته: سبقك]ابن عبد ربه...العقد الفريد2/320، وما بعدها].
وفي بعض الكتب: عدو لنعمتي، متسخط لقضائي، غير راض بقسمي بين عبادي]ابن قتيبة..عيون الأخبار 2/9 (بتصرف)].
3- يضعف اليقين، ويأكل الحسنات ، ويرفع البركة.
حيث إن الحاسد: لا يثق بقضاء الله، ولا يرضي بما قسم له.
كما أن الحسد: أول ذنب عصي الله به في السماء، وأول ذنب عصي الله به في الأرض.
فأما في السماء: فحسد إبليس...لآدم.
وأما في الأرض : فحسد قابيل هابيل]ابن عبد ربه...العقد الفريد2/320، وما بعدها].
ولذلك قال سليمان التيمي:
الحسد: يضعف اليقين، ويسهر العين، ويكثر الهم.] ابن عبد ربه...العقد الفريد2/320، وما بعدها]
ولا غرابة..إذا أضعف الحسد يقين صاحبه، وهز ثقته، وأضاع طمأنينته، وأكل راحته: أن يبعده عن ساحة الرضا بما قسم له ربه، بل ربما أدخله ـ كما سبق ذكره ـ دائرة الإعراض على قدر الله.
وهنا: تتآكل حسناته، وتكثر سيئاته.
يقول صلي الله عليه وسلم:"إياكم والحسد فإن الحسد: يأكل الحسنات، كما تأكل النار الحطب"]أبو داود ..عن أبي هريرة].
ويقول أنس بن مالك رضي الله عنه:"رفعتن البركة عن خمسة، عن:
الناكث.
والباغي.
والحسود.
والحقود.
والخائن]الراغب الأصبهاني ...محاضرات الأدباء1/252].
4- الإفراط في الأنانية:
لا يمنع الإسلام أن يحب المرء نفسه، وأن يعمل لخيرها في الدنيا وفي الآخرة.
ما دام ذلك..في إطار من الالتزام بشرع الله تعالي فيما يأتي أو يدع، ومراعاة لمشاعر الآخرين، وحقوقهم...
التي يصل بها المشرع إلى : " أن يحب المرء لغيره ما يحبه لنفسه.
والحسد: يصادم ذلك تمامًا.
حيث إن علة الحسد: هي الإفراط في حب الذات "الأنانية" والرغبة في جلب كل الخير لها، بل في منعه ـ كذلك ـ عن الآخرين.
ومن العجيب أن بعض الحكماء يقولون: إن الأناني..لا يحب نفسه لأنه لو كانت له نفس تحب لما فرقت بينه وبين غيره، إذ من يحب لا يستطيع أن يكره.
5- وقوع الحسود في ارتكاب الكبائر:
عد أهل العلم الحسد: من الكبائر.
ولذلك:
يقول الحسن البصري: يا ابن آدم...!
لم تحسد أخاك...!؟
فإن كان الذي أعطاه.. لكرامته عليه: فلم تحسد من أكرمه الله...؟
وإن كان غير ذلك: فلم تحسد من مصيره إلى النار..؟
المصابون بداء الحسد
المصابون بهذا الداء الوبيل: كثر، منتشرون بين الناس وفي دنياهم.
والإصابة به كذلك: درجات تختلف من واحد لآخر، وتختلف من نعمة لأخرى.
ولكن أبرز هذه الفئات المصابة له: ثلاث..
هي :
1) إبليس ، عليه لعنة الله.
حيث إنه أول من حسد، وأول من عصي بهذا الذنب.
يقول تعالي: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين * قال ما منعكم ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين * قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فأخرج إنك من الصاغرين* قال أنظرني إلى يوم يبعثون* قال إنك من المنظرين * قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم* ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين * قال أخرج منها مذؤوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين)[الأعراف:11-18].
وانطلق إبليس: يفسد ويكيد لآدم وذريته من بعده، حتى يكونوا من الغاوين، ومن أصحاب الجحيم، ويكونوا شركاءه في العذاب الأليم.
وانطلق مع إبليس جنود كثيرون...من شياطين الإنس والجن، أكل الحسد قلوبهم، فصاروا يغوون الناس، ويفسدون في الأرض.]عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني..الأخلاق الإسلامية 1/804وما بعدها]
2) اليهود..عليهم لعنات الله:
واليهود: هم أرباب الحسد، وأكثر الناس تمكنا لهذا الداء فيهم.
فهم الذين: أنكروا الحق الذي جار به عيسى عليه السلام، ولذلك ـ حسدًا منهم ـ حاولوا التخلص منه، ولولا الله تعالي نجاه فرفعه إليه، وألقي شبهه على من خانه ودل عليه.
وكان داء الحسد كذلك: من أكبر العوامل التي جعلت اليهود أنفسهم ينكرون الحق الذي جاء به محمد صلي الله عليه وسلم.
وبالحسد: تآمروا عليه وعلي دعوته، في حياته صلي الله عليه وسلم ، ثم تابعوا تآمرهم على الإسلام في جميع العصور.
يقول سبحانه وتعالي
أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكًا عظيمًا * فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفي بجهنم سعيرًا) [ النساء:51-55].
ولذلك: وصفهم الله بصفة الحسد صراحة، في قوله تعالي
ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارًا حسدًا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق)[البقرة:109].
وسلالاتهم اليوم: يعملون على طريقة آبائهم الأولين، حيث يفسدون العالم، ويخرجون الناس من الهداية إلى الضلال، ومن الإيمان إلى الكفر، ومن السعادة والاستقرار إلى العذاب والشقاء، حسدًا من عند أنفسهم للبشرية عامة ، ولأهل الإيمان خاصة.
والعوامل النفسية فيهم:
ذات أصول واحدة، لقد كانت حسدًا خبيثًا، فتحول إلى حقد دفين، على كل شعوب الأرض، لا سيما المسلمون]عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني..الأخلاق الإسلامية 1/804 وما بعدها].
3) ضعاف الإيمان ، المفتنون بالدنيا:
وأصل الحسد ـ كما سبق بيانه ـ الافتتان بالدنيا، والتطلع ـ ابتداء ـ لما عند الغير من النعم.
ولعدم قدرة الحاسد على أن يكون له ما عند المحسود: يركبه الغيظ والكمد والحقد والحسد.
أ) فهذا قابيل: حسد أخاه هابيل، لما خص الله به من النعم...!
ولعدم قدرته على أن يكون له ما عند أخيه...!!
ولعدم تسليمه بقدر الله وعدالة توزيعه للنعم...!!
فقد ركبه: الغيظ والكمد والحقد والحسد، على أخيه...!!
وأدي به الغيظ والكمد والحقد والحسد : إلى أن يقتل أخاه.
ب)وهؤلاء إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام:
حسدوا أخاهم يوسف، لما خصه الله به من النعم ..!!
ولعدم قدرتهم على أن يكون لهم ما عند أخيهم...!
ولعدم تسليمهم بقدر الله تعالي، وعدالة توزيعه للنعم..!!
فقد ركبهم الغيظ والكمد والحقد والحسد، على أخيهم .
وأدي بهم غيظهم وكمدهم وحقدهم وحسدهم: إلى أن يفكروا في قتل أخيهم، وألقوه في غيابه الجب.
ج) وهؤلاء قوم قارون: حسدوه على أن لآتاه الله (من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة) [القصص:76].
ولعدم قدرتهم على أن يكون لهم ما عنده...!
فقد ركبهم الغيظ والكمد والحقد والحسد، على قارون.
وأدي بهم غيظهم وكمدم وحقدهم وحسدهم : إلى أن يقولوا متحسرين
يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم)[القصص:79].
ولذلك قال لهم الذين أوتوا العلم
ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحًا ولا يلقاها إلا الصابرون)[القصص:80].
أسباب الحسد
وأسباب هذا الداء الوبيل: كثير وذميمة.
أبرزها ما يذكره الماوردي في كتابه "أدب الدين والدنيا".
يقول: أعلم أن دواعي الحسد ثلاثة:
أحدها: بغض الحاسد للمحسرد، وكراهيته للخير يأتيه؛ فيأسي عليه...بفضيلة تظهر، أو منقبة تشكر، فيثير فيه حسدًا قد خالط بغضًا.
وهذا النوع لا يكون عامًا.
والشاعر ينصح المحسود في هذه الحالة بقوله:
أصبر على حسد الحسود فإن صبرك قاتله
فالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله
وهو: أضرها؛ لأنه ببغض كل الناس.
الثاني: أن يظهر من المحسود فضل، ويعجز عنه الحاسد؛ فيكره تقدمه فيه، واختصاصه به؛ فيثير ذلك الفضل ـ الذي ظهر ـ حسدًا ـ عند الحاسد ـ لولاء، لكف عنه.
وهذا النوع: أوسط الحسد.
حيث إنه: لا يحسد الأكفاء من دنا، وإنما يختص بحسد من علا.
وقد يمتزج بهذا النوع ضرب من المنافسة.
فإذا كانت مع عجز: صارت حسدًا.
الثالث: أن يكون في الحاسد شحُّ بالفضائل، وبخل بالنعم.
وليست إليه: فيمنع منها.
ولا بيده: فيدفع عنها.
لأنها : مواهب قد منحها الله من شاء؛ فيسخط على الله عز وجل في قضائه، ويحسد.
على ما منع من عطائه، حتى وإن كانت نعم الله تعالي عنده أكثر، ومنحه عليه أظهر.
وهذا النوع: أعمها، وأخبثها؛ إذ ليس لصاحبه راحة، ولا لرضاه غاية.
فإن اقترن بشر وقدرة : كان بورًا وانتقامًا.
وإن صادف عجزًا أو مهانة: كان جهدًا وسقامًا]الماوردي ..أدب الدين والدنيا 261، وما بعدها].
يضاف إلى ذلك: نوع رابع.
وهو: إعجاب الحاسد بنفسه، وغروره بذاته، وانتقاصه لغيره.
ولذلك: قال إبليس معللا حسده لآدم بقوله: (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين)[الأعراف:12].
علاج الحسد
وإما علاج الحسد لمن كان غالبًا عليه، وطبعه مائلا إليه؛ ليسلم من ضرره وعدواه..بشرط أن يكون راغباً في العلاج، صادقًا في عزمه الشفاء منه: أمور كثيرة، حسب التقسيم التالي:
أ) أمور وقائية:
1 التربية الإيمانية: التي تصحح للإنسان مفاهيمه، وتبصره بعظيم حكمة الله تعالي: في عطائه ومنعه، وخفضه ورفعه، وإعزازه وإذلاله، وفي كل ما تجري به مقاديره، والتي تبصره بأن حكمة الله العظيمة لا تفارق قضاءه وقدره، والتي تبصره بأن الأصل في النعم والمصائب في ظروف الحياة: أنها مجالات امتحان واختبار، وأن الحرمان قد يكون خيرًا للإنسان من العطاء ، وأن المصيبة قد تكون خيرًا له من النعمة ؛ وذلك بالنظر إلى عواقب كل منهما.] عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني..الأخلاق الإسلامية 1/804وما بعدها].
وتنتج هذه التربية بالضرورة: أتباع الدين في أحكامه، والرجوع إلى الله تعالي في آدابه..فيقهر نفسه على مذموم خلقها، وينقلها عن لئيم طبعها، وإن كان نقل الطباع عسرًا ،ولكن بالرياضة يسهل منها ما استصعب، ويحبب منها ما أتعب. ]الماوردي ..أدب الدين والدنيا 261 وما بعدها].
قال أبو تمام الطائي:
فلم أجد الأخلاق إلا تخلقًا ولم أجد الأفضال إلا تفضلاً
2- التربية على التخفف من الأنانية، وحب الذات والإعجاب بها، واحتقار الآخرين، وانتقاصهم، والاعتراض ـ بالتالي ـ على نعم الله عليهم.
وذلك: باتخاذ الوسائل التي تربي في المرء عامة، والناشئ خاصة، حب الآخرين ، وعدم النظر إلى ما عندهم يطمح ، ورغبة استيلاء والتي تغذي فيهم: احترام حقوق الآخرين، التي وهبهم الله إياها.
والأدب الإسلامي المطلوب حين يري الإنسان شيئا لغيره، فيستحسنه..أن يقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله وأن يدعوا لصاحبه بالبركة والخير العميم.] عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني..الأخلاق الإسلامية 1/804وما بعدها]
3- التربية والتدريب علي كف البصر، وعدم التطلع إلي ما في أيدي الناس، مما وهبهم الله من نعم، وما فضلهم به من العطاءا وهبات.
وذلك: بحصر التطلع الدائم إلي عظيم فضل الله، وبحور خزائنه التي لا تنفد.
وقد أرشد القرآن الكريم إلي هذه الوقاية.
وفي قوله تعالي للمؤمنين
ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم علي بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليم )[النساء:32].
وفي قوله تعالي لرسوله صلي الله عليه وسلم
لا تمدن عيتفانيكإلي ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين)[الحجر:88].
وفي قوله سبحانه
ولا تمدن عيتفانيكإلي ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقي)[طه:131].
ففي هذه النصوص: نهي عن الحسد ومد العين وتوجيه إلي سؤال الله من فضله. ]عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني..الأخلاق الإسلامية 1/804وما بعدها].
ب)أمور علاجية:
1- الرضا بقضاء الله.
حيث إن ذلك يساعد على الاستسلام للمقدور، حتى لا يغالب قضاء الله؛ فيرجع مغلوبًا، ولا أن يعارض سبحانه في أمره؛ فيرد محروما مسلوبًا.
يقول محمود الوراق:
قدر الله كائن حين يقضي وروده
قد مضي فيك علمه وانتهي ما يريده
وأخو الحزم حزمه ليس مما يزيده
فأرد ما يكون إن لم يكن ما تريده
وهنا...إن أظفرته السعادة بأحد هذه الأسباب، وهدته المراشد إلى استعمال الصواب:سلم من سقامه، وخلص من غرامه، واستبدل بالنقص فضلا، واعتاض من الذم حمدًا.
2- استعمال عقله:
حيث إن العقل الواعي السليم..يستقبح من نتائج الحسد مالا يرضيه، ويسنكف من هجنة مساويه، فيذلل نفس صاحبه أنفه، ويطهرها حمية.
وبالتالي: تذعن النفس لرشدها، وتكف عن غيها، وتجيب إلى صلاحها.
ومن المعلوم : أن هذا يصح من صاحب النفس الأبية، والهمة العالية.
وإن كان ـ من الطبيعي ـ أن ذا الهمة يترفع بنفسه عن دناءة الحسد.]الماوردي ..أدب الدين والدنيا 261 وما بعدها].
ويقول الشاعر:
أبي له نفسان : نفس ركية ونفس إذا ما خافت الظلم تشمس
3- استقباح حاله:
حيث ينبغي أن يري مكانته في نفسه ابلغ، ومن الحسد أبعد.
وبالتالي يستقبح من نفسه أ، يكون خاسرًا فيستدفع ضرره، ويتوقي أثره،ويستعمل الحزم في دفع ما أكده وأكمده؛ ليكون أطيب نفسًا ، وأهدأ عيشًا.
يقول الشاعر:]الماوردي..أدب الدين والدنيا 261 ، وما بعدها]
بصير بأعقاب الأمور كأنما يري بصواب الرأي ما هو واقع
4- أن يخشى ابتعاد الناس عنه:
حيث إن الناس، تخشى الحاسد، وتبتعد عن الاختلاط به،إحساسًا بخطره، وتجنبًا لضره.
وهو إذ يري نفور الناس منه، وابتعادهم عنه: يجب أن يخاف على نفسه من عداوتهم، أو على عرضه من ملامتهم.
ولذا ينبغي عليه: أن يتألفهم بمعالجة نفسه، ويراهم إن صلحوا أجدى نفعًا، وأخلص ودًا؛ حيث أن المرء ـ كما يقولون ـ قليل بنفسه، كثير بإخوانه.
يقول الشاعر:
لا تحسبوني غنيا عن مودتكم إني إليكم وإن أيسرت مفتقر
ج) أمور من المحسود:
إعلم : أنه بحسب فضل الإنسان، وظهور النعمة عليه...يكون حسد الناس له.
فإن كثر فضله، أو ظهرت نعم الله عليه: كثر حساده.
وإن قل فضله، أو استتر نعم الله عليه: قال حساده.
ولذلك: ينبغي على صاحب النعمة ..أن يسترها، ويعمل على عدم لفت الأنظار إليه، فذلك أدعي إلى عدم الحسد لها، والإيذاء لصاحبها.
فإن ظهور الفضل يثير الحسد، وحدوث النعمة يضاعف الكمد...!!
ولهذا يقول صلي الله عليه وسلم معلمًا ومعالجًا: " استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان؛ فإن كل ذي نعمة محسود"]رواه: الطبراني ..في الكبير، وأبو نعيم..في الحلية،والبيهقي..في شعب الإيمان (أنظر: جمع الجوامع...للسيوطي 1/106)].
ويقول الشاعر:
إن يحسدوني فإني غير لأئمهم قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا
فدام لي ولهم ما بي وما بهم ومات أكثرنا غيظا بما يجد
هذا ..وربما كان الحسد منبها على فضل المحسود ونقص الحاسد، كما قال أبو تمام الطائي:
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت ما كان يعرف طيب عرف العود
لولا التخوف للعواقب لم يزل للحاسد النعمي على المحسود
وقد يقول قائل : أليس هناك تعارض بين: هذا الستر المطلوب، والإخفاء المقصود للنعمة، وبين الأمر بالتحدث بها، كما ورد في قوله تعالي
وأما بنعمة ربك فحدث)[الضحى:11].
ونقول لا تعارض بين هذا وذاك]الفخر الرازي..التفسير الكبير(تفسير سورة : والضحى)].
حيث إن النعمة المشار إليها في الآية...كما قال العلماء؛ هي:
1- إما أن تكون..القرآن الكريم؛ فإن القرآن أعظم نعمة، والتحديث به: أن يقرأه، ويقرئ غيره، ويبين حقائقه.
2- وإما أن تكون ..النبوة.
والتحديث بها: أن يبلغ النبي صلي الله عليه وسلم ما أنزل إليه من ربه.
3- وإما أن تكون...التوفيق لرعاية اليتيم.
والتحديث بها: إظهار هذا التوفيق والرعاية؛ ليقتدي به غيرك.
وقد سبق ذكر حديث النبي صلي الله عليه وسلم :" لا تحاسدوا إلا في اثنتين....".
وأما النعمة التي موضوع بحثنا..فهي غير ذلك على ما سبق ذكره وتوضيحه في الصفحات السابقة
المصدر : منتديات الونشريسي التعليمية:
http://bou-r.talk4her.com/t18516-topic#ixzz2qmkGfgPd