صراع النفس والمعصية ..قصة نجاح !!
هذه القصة هي قصة نجاح يحتاج إليه كل منّا حين تواجهه معصية من معاصي السر أو العلانية؛ كيف يواجهها, كيف يفكّر حين تلح عليه، كيف يحصّن نفسه، كيف يتغلب عليها.
المواجهة مع المعصية والانتصار عليها في بعض الأحيان تكون صعبة، لكنها مع معصية السر تكون لدى بعض الناس أشد صعوبة، وحين نتأمل في هذه القصة نجد أن هناك قوة عظيمة حين يمتلكها القلب ينجح في التغلب على دواعي المعصية، وطردها والانتصار عليها.
والقصة متكررة، ولها أبطال كثيرون، وبعضهم معروفون، لكن أحداثها متشابهة، تبدأ من الإثارة التي يواجهها رجل من امرأة بلغت أعلى مراتب الفتنة، من جمال يثير الرغبة، ومال وجاه تهفو إليه النفس، وفوق ذلك هي التي تدعوه إلى نفسها, فأتاحت جميع السبل المحرمة أمام هذا الرجل لإشباع شهوته، وسقطت كل الحواجز بينه وبين المعصية، إلا حاجز واحد حال بينه وبين السقوط، ألا وهو خشية الله تعالى والخوف منه, فقال لها "إني أخاف الله" رواه البخاري ومسلم.
كيف نجح مثل هذا الرجل؟ وما السر وراء ثباته أمام فتنة كهذه؟ أهي تلك الكلمة التي قالها "إني أخاف الله"؟ لا يمكن أن يكون الموضوع بهذه السهولة، فكم من الناس لو سألته هل تخاف الله؟ لقال نعم! لكنه ساقط في كثير من المعاصي، لا سيما معاصي السر.
ثبات مثل هذا الرجل وراءه شيء آخر أكبر من مجرد قوله: "إني أخاف الله"، فقوله "إني أخاف الله" هو نتيجة لعملية كبيرة دارت في نفسه، قام فيها صراع بين داعي الهوى، وتزيين الشيطان، وقوة الفتنة، وثورة الشهوة، وبين ما رسخ في قلب هذا الرجل من خشية الله عز وجل، انتصر فيه هذا الرجل من داخله على كل ذلك رافضاً عرض تلك المرأة الفاجرة، فالله تعالى يراه، ويعلم سره كما يعلم علانيته، وهو يحب ربه عز وجل فكيف يرتكب المعصية، كيف يتجرأ على الله تعالى ولا يخاف غضبه وعقابه، فكانت النتيجة نجاحاً عظيماً في هذا الابتلاء, نطق به لسانه مُنهياً هجوم المعصية عليه فقال: "إني أخاف الله".
وهذا ما نبحث عنه ونريده، خشية الله تعالى في القلب، فخشية الله هي الوقاية من تلك المعاصي التي كثرت دواعيها ليل نهار، وهي الدواء لتلك المعاصي التي تصيب القلب أحياناً، من نفاق أو ريـاء أو عُجب أو كبر، أو تلك التي تتجرأ عليها الأبصار أو الألسنة أو الأيدي أو الأرجل خـفية أو علانـية، من ترك واجب، أو ارتكاب فاحشة، أو نظر إلى محرّم، أو غيبة ونـميمة، أو غش، أو خيانة، أو تجسس، أو تعد خفي على حقوق الناس، أو اختلاس من أموالهم، أو غير ذلك من معاصي السر والعلانية.
المعصية تجد فرصتها للظهور حين تقوى دواعي الهوى، وتثور شهوات النفس ونزاواتها، ويشتد تزيين الشيطان، وتخلو النفس حينها من ذكر أو عمل صالح أو ممارسة نافعة؛ وتضعف في القلب خشية الله تعالى التي هي سلاح المجاهدة، قال إبراهيم الخواص: "أول الذنب الخطرة، فإن تداركها صاحبها بالكراهية وإلا صارت معارضة، فإن تداركها صاحبها بالرد وإلا صارت وسوسة، فإن تداركها صاحبها بالمجاهدة وإلا هاج منها الشهوة مع طلب الهوى فغـطّى العلم والعقل والبيان" مداواة النفوس، ص 19.
وللنفس أحوال مع المنكرات، تتوقف على نتيجة المدافـعة بين خشية الله في القلب ودواعي المعصية، فأيهما كان له حضور قوي في القلب كانت له الغلـبة والانتصار, ومن هنا يتضج مدى حاجة النفس إلى الخشية من الله تعالى في دفع المنكرات، ومدى الخطر الكبير من ضعفها، فضعف الخشية فرصة للشيطان يتسلل منه إلى النفس، فيزين لها المنكرات، ويجرئها على فعل المعصية، حتى تحمل الأوزار والسيئات، قال المناوي: "بقدر قـلّة الخوف يكون الهجوم على المعاصي، فإذا قـلَّ الخوف جداً واستولت الغفـلة؛ كان ذلك من علامة الشـقاء، ومن ثم قالوا: المعاصي بريد الكفر" فيض القدير، رقم 1505.
ولا يقتصر خطر ضعف الخشية من الله تعالى على إعطاء الفرصة للمعصية لتنتصر على النفس، بل هذا السقوط في صراع المعصية يضر بما للنفس من رصيد الحسنات، فعن ثوبان رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام: "لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضا, فيجعلها الله عز وجل هباء منثوراً. قال ثوبان: يا رسول الله، صفهم لنا جلهم لنا أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم! قال: أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم, ويأخذون من الليل كما تأخذون, ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها" سنن ابن ماجه. وإذا كان ضعف الخشية من الله تعالى داء، فخير دواء للمعاصي، معاصي السر ومعاصي العلانية، هو زيادة قوة الخشية من الله تعالى في القلب، قال في فيض القدير: "القلب إذا امتلأ من الخوف أحجمت الأعضاء جميعها عن ارتكاب المعاصي" رقم 1505.
ودواء الخشية مركب من عنصرين؛ من الخوف الذي يأتي من تذكير النفس بالعقوبة، والتفكر فيما توعّد الله تعالى به العاصين في الدنيا والآخر، وأخذ العبرة ممن نزل بهم عقاب الله تعالى، كفرعون الذي قال الله تعالى فيه: (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى) [النازعات : 25]، قال عز وجل بعد أن ذكر ما وقع بفرعون من العذاب: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْـرَةً لِّمَن يَخْشَى) [النازعات : 26].
فإن أُضـيف إلى هذا الخوف العنصر الآخر، وهو المعرفـة بما لله تعالى من صفات تثير في القلب محبته سبحانه ومحبة طاعته، وصفات تنبه القلب إلى ما يستحقه عز وجل من إجلال وتوقير، وما يتصف به سبحانه من صفات تورث في القلب الحياء كصفة السمع والبصر والعلم، وما يتصف به سبحانه من صفات تثير الوجل كصفة القوة والغضب والعدل، مع المعرفة بآثار الذنوب والمعاصي القبيحة وأضرارها في الدنيا والآخرة؛ صار الخوف خشـية، وكان علاجاً للمعاصي نافعاً ودواء واقياً بإذن الله تعالى.
فالخشية "خوف مقرون بمعرفة... وعلى قدر العلم والمعرفة يكون الخوف والخشية كما قال النبي: "إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية" وفى رواية "خوفاً". فصاحب الخوف: يلتجىء إلى الهرب والإمساك، وصاحب الخشية: يلتجىء إلى الاعتصام بالعلم، ومثلهما مثل من لا علم له بالطب ومثل الطبيب الحاذق، فالأول يلتجىء إلى الحمية والهرب، والطبيب يلتجىء إلى معرفته بالأدوية والأدواء" مدارج السالكين، ج 1، ص 512، 513.
قال الله تعالى: (... إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) [فاطر : 28 ]؛ "أي إنما يخـشاه حق خشيته العلماء العارفون به, لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير العليم الموصوف بصفات الكمال المنعوت بالأسماء الحسنى كلما كانت المعرفة به أتم، والعلم به أكمل؛ كانت الخشية له أعظم وأكثر" تفسير ابن كثير.
وقد رتّب الله عز وجل حصول الخشية في القلب على معرفة الله عز وجل، إذ قال تعالى فيما وصى به موسى عليه السلام ليقوله لفرعون: (وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَـى) [النازعات : 19]؛ " أي أرشدك إلى عبادته وتوحيده فتخـشى عقابه، والفاء لترتيب الخشية على الهداية، لأن الخشية لا تكون إلا من مهتد راشـد" تفسير فتح القدير, للشوكاني، وأخرج ابن أبي شيبة عن حذيفة قال: "بحسب المؤمن من العلم أن يخشى الله".
وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يدعو الله تعالى أن يرزقه خشيته في السـر والعلانـية، مع أنه عليه الصلاة والسلام أخشى الناس وأتقاهم، فعن عمار بن ياسر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو فيقول: "اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق ... وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة ..." سنن النسائي.
وربما لا تخلو مجاهدة النفس في ترك معصية السر أو معصية العلن من سقطات، ودواؤها حينئذ التوبة والاستغفار، فالتوبة هي الدواء الذي أوصـى به رسول الله عليه الصلاة والسلام، فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: "قلت: يا رسول الله، أوصني! قال: عليك بتقوى الله ما استطعت، واذكر الله عند كل حجر وشجر، وما عملتَ من سوء فأحْدِث له توبـة؛ السـر بالسر، والعلانـية بالعلانية" صحيح الترغيب والترهيب، ج 3، رقم 3144.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجد قال: "اللهم لك الحمد، أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن... فاغـفر لي ما قدّمتُ وما أخّرتُ، وما أسـررتُ وما أعلـنتُ، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت..." رواه البخاري ومسلم. وقال المناوي: "فإن حصل للعبد غفلة عن ملاحظة خوفه وتقواه, فارتكب مخالفة مولاه؛ لجأ إلى التوبة ثم داوم الخشية" فيض القدير , ح 3472.
ولخشية الله تعالى فضل عظيم، لكن خشية الله تعالى في السر أعظم قدراً من الخشية في العلانية؛ ولهذا خصها الله تعالى بالذكر في عدد من الآيات كما في قوله تعالى: (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ) [ق : 33] قال القرطبي: "الخشية بالغيب أن تخافه ولم تره. وقال الضحاك والسدي: يعني في الخلوة حين يراه أحد. وقال الحسن: إذا أرخى الستر وأغلق الباب"، وقال المناوي: "إن خشية اللّه رأس كل خير، والشـأن في الخشـية في الغيب لمدحـه تعالى من يخافه بالغيب" فيض القدير، رقم 1537.
وقدّمها الرسول صلى الله عليه وسلم على خشية العلن في حديث (المنجيات) "ثلاث منجيات: خشية الله تعالى في السِّـر والعلانـية ..."، فقدّم عليه الصلاة والسلام الخشية في السِّـر؛ "لأن تقوى اللّه فيه أعلى درجـة من العلن؛ لما يخاف من شوب رؤية الناس، وهذه درجة المراقبة، وخشيته فيهما تمنع من ارتكاب كل منهي, وتحثه على فعل كل مأمور" فيض القدير, ح 3472.
ومع ذلك فخشية الله واجبة في السر والعلانية، والظاهر والباطن، والغيب والشهادة على السواء، قال تعالى: (... وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ... ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [الأنعام : 151]، وقال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ...) [الأعراف : 33]، عن قتادة قال: "المراد سر الفواحش وعلانيتها" الفتح. وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: "قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتق الله حـيثما كنت... " سنن الترمذي، ومعنى (حيثما كنت): "أي وحدك أو في جمـع ... أو المراد في أي زمان ومكان كنت فيه، رآك الناس أم لا، فإن الله مطّلع عليك" فيض القدير، ح 115.
وأول ما يُذكر في فضل الخشية من الله تعالى أنها سبب الانتفاع بآيات القرآن ومواعظه وعبره، والتي يترتب عليها صلاح النفس في الدنيا، حيث ذكر الله تعالى أن الموعظة والتذكرة لا تنفع إلا الذين اتصفوا بصفة الخشية منه سبحانه، قال تعالى: (طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى) [طه : 3]، وقال تعالى: (سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى) [الأعلى : 10]؛ أي سيتعظ الذي يخاف ربه (التفسير الميسر)، وفي تفسير القرطبي: "وقد يذّكر مَن يرجوه، إلا أن تذكرة الخاشي أبلغ من تذكرة الراجي؛ فلذلك علقها بالخشية دون الرجاء، وإن تعلقت بالخشية والرجاء".
وخشية الله تعالى من المُنجيات التي تنجي العبد من مهالك الذنوب والمعاصي في الدنيا والآخرة، قال عليه الصلاة والسلام: "ثلاث مُنجيات: خشية الله تعالى في السر والعلانية, والعدل في الرضا والغضب, والقصد في الفقر والغنى. ..." صحيح الجامع الصغير، ج 1، رقم 3039.
وأما أجر الذين يخشون ربهم فقد تكرر ذكره في الكتاب والسنة مرات عدة، لا سيما أولئك الذين يخشون الله تعالى في السر، فخشية الله تعالى من صفات السبعة الذين يظلهم الله تعالى في ظل عرشه وكرامته وحمايته حين يشتد الكرب بالناس يوم القيامة، قال عليه الصلاة والسلام: "سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله... ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله..." رواه البخاري ومسلم.
ويأتي موعدهم بعد المعفرة مع أجر وصفه الله تعالى بأنه أجر كريم وكبير فقال تعالى: (إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) [يس : 11]، وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) [الملك : 12]، كما ذكر جزاءهم على وجه التفصيل فقال تعالى: (جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) [البينة : 8]، قال في فتح القدير: "أي ذلك الجزاء والرضوان لمن وقعت منه الخشية لله سبحانه في الدنيا وانتهى عن معاصيه بسبب تلك الخشية التي وقعت، لا مجرد الخشية مع الانهماك في معاصي الله سبحانه، فإنها ليست بخشية على الحقيقة".