الطاعون ...... الموت الأسود
الطاعون"إن جرثومة الطاعون لا تموت ولا تختفي أبدا، بل إنها تستطيع أن تظل كامنة عشرات السنين في الأثاث، وفي الفراش، وتنتظر بصبر في الغرف، وفي المخازن والسراديب، وفي الحقائب، وفي المناديل، وفي الورق، وربما أتى يوم تعلم فيه الناس الدرس الذي يجعلهم غير سعداء، عندما يوقظ الطاعون فئرانه ويرسل بهم إلى الموت في إحدى المدن السعيدة".
من رواية (الطاعون)
ألبير كامي
لم يحدث على مدى التاريخ أن حصد مرض كل هذا العدد من الأرواح عبر العالم كما فعل الطاعون، حتى إنه حصد أرواح ربع سكان العالم في أحد أوبئته. وقد أدى الطاعون عبر السنين إلى انخفاض عدد سكان مصر من ثمانية ملايين عام 1346، إلى ثلاثة ملايين فقط عام 1805. وفي خلال فترة اشتداد المرض في الفترة من 1347 إلى 1349 مات في القاهرة وحدها 200 ألف شخص من أصل 500 ألف شخص هم مجموع سكانها في ذلك الوقت.
والطاعون في الأساس هو مرض يصيب القوارض (كالفئران) والبراغيث. وتحدث الإصابة في الإنسان إذا قرصه برغوث كان قد أصيب من قبل عندما قرص أحد القوارض المصابة بالمرض، والذي كان قد أصيب بدوره عندما قرصه برغوث آخر حامل للمرض!
تتكاثر البكتيريا بداخل البرغوث حتى تؤدي إلى سدّ معدته فيتضور البرغوث جوعا، فيبدأ البرغوث في البحث بشراهة عن مصدر غذاء وعن عائل يقوم بمص دمائه. ولأن معدته مسدودة بالبكتيريا فإن مصّ دماء العائل الذي يقرصه لا يشبع جوعه، فيتقيأ الدم مرة أخرى على الجرح ويكون الدم هذه المرة محملا ببكتيريا الطاعون. يموت البرغوث من الجوع بينما يصاب الإنسان المقروص بالمرض. وتحدث أوبئة الطاعون بين البشر عندما تنتشر أولا بين مجتمعات القوارض، أو عندما تكون هناك زيادة كبيرة في عدد الفئران في مكان ما.
الاكتشاف
عام 1894، وفي أيام وباء الطاعون الثالث، استطاع كل من الفرنسي "أليكساندر يرسين"، والياباني "شيباسابورو كيتاساتو" عزل البكتيريا المسببة للمرض، وكان كل منهما يعمل بصورة مستقلة عن الآخر. كانت هناك مشكلة بخصوص من توصل إلى الاكتشاف أولا، إلا أن المجتمع العلمي تقبل "يرسين" في النهاية كالمكتشف الأول للبكتيريا. كان "يرسين" قد سمى البكتيريا Pasteurella pestis تكريما لمؤسسة "لويس باستير"، وهي المؤسسة التي كان يعمل فيها. إلا أنها تعرف الآن بـYersinia pestis تكريما ليرسين.
********************
البرغوث مسبب المشكلة
لاحظ "يرسين" أيضا أنه يمكن أن تكون هناك أوبئة طاعون بين الفئران في غير وقت أوبئة الطاعون بين البشر، وغالبا ما يكون هناك وباء بين الفئران أولا، فإذا وجد الكثير من جثث الفئران في مكان ما، كان هذا دليلا على قرب وقوع وباء طاعون بين البشر.
عام 1898، وفي أيام الوباء الثالث أيضا، اكتشف الفرنسي "بول لويس سيموند" دور البراغيث والفئران في دورة المرض، حيث لاحظ أن الأشخاص المصابين لم يكونوا بالضرورة على اتصال بأشخاص مصابين آخرين ليصابوا بالعدوى. واستنتج أن البرغوث يعمل كعامل وسيط في نقل المرض من القوارض إلى الإنسان، بعد أن لاحظ أن الأشخاص الذين تعاملوا مع الفئران الميتة حديثا أصيبوا بالمرض، بينما الأشخاص الذين تعاملوا مع الفئران التي ماتت منذ أكثر من 24 ساعة لم يصابوا بالعدوى.
باثولوجي
عندما يقرص البرغوث المصاب جلد الإنسان، تنتقل البكتيريا إلى أنسجة الجسم، وتبدأ في التكاثر داخل الخلية. تنتقل البكتيريا إلى الجهاز الليمفاوي إلى أن تصل إلى عقدة ليمفاوية، وهناك يحدث التهاب نزفي شديد وتبدأ العقدة الليمفاوية في التمدد والتورم، وتظهر التورمات المميزة للمرض. ولأن العقد الليمفاوية ترشح سائلها داخل مجرى الدم، فمن هذا الطريق تنتقل البكتيريا إلى الدم وتسافر إلى أي مكان في الجسم. وقد يحدث نزيف في الأماكن التي توجد فيها البكتيريا يصعد إلى طبقة الجلد، وتظهر بقع/ لطش سوداء على الجلد. لهذا سمّي بالموت الأسود.
**************
أحيانا يصيب المرض الرئتين، وفي هذه الحالة يصبح من الممكن أن ينتقل المرض من إنسان لإنسان عن طريق الرذاذ الذي يخرج مع الكحة –مثله في ذلك مثل الأنفلونزا– دون المرور بالبرغوث والفأر. سننظر الآن بشيء من التفصيل إلى الأنواع الثلاثة للطاعون.
ثلاثة أنواع من الرعب
هناك ثلاثة أنواع من الطاعون: الطاعون الدمّلي Bubonic plague (وتترجم أحيانا الطاعون الدبّلي)، وهو النوع الأكثر شيوعا وينتقل عن طريق قرصة البرغوث المصاب، ويتميز بانتفاخ العقد الليمفاوية، وتظهر الأعراض من يومين إلى ثمانية أيام من قرصة البرغوث، ويبلغ قطر الدبّل أو التورم الذي يتكون من سنتيمتر واحد إلى عشرة سنتيمترات، ويكون المرض مصحوبا بحمى ورعشة وصداع وإرهاق وألم في العضلات.
النوع الثاني هو الطاعون المُسَبِّبْ للعفن Septicemic plague، وفيه يصل الميكروب إلى مجرى الدمّ، إذا تصادف وثقب البرغوث وريدا أثناء قيامه بالعض، ويمكن أن يتطور الطاعون الدبّلي أو الرئوي إلى هذا النوع أيضا إذا استطاع الميكروب أن ينفذ إلى مجرى الدم. وتتضمن الأعراض هنا الحمى والرعشة وألم في البطن وإسهال وصدمة ونزيف من الفم والأنف والشرج، وموت بعض أنسجة الجسم واسودادها، وغنغرينا في الأطراف (بسبب تكون جلطات في الأوعية الدموية الصغيرة) خاصة في أصابع اليدين والقدمين والأنف.
طاعون أشدود
النوع الثالث هو الطاعون الرئوي، وهو الأقل شيوعا، لكنه الأخطر لأنه يميت أسرع، ولأنه ينتقل من شخص إلى آخر عن طريق استنشاق الرذاذ الذي يخرج مع الكحة، وهو بهذا لا يحتاج إلى براغيث أو فئران. وتتميز الأعراض هنا بالحمى والضعف ثم أعراض الالتهاب الرئوي وألم الصدر والكحة وصعوبة التنفس والبلغم الدموي والقيء والغثيان. ويمكن للمصاب الذي يعاني من الطاعون الدبلي أو المسبب للعفن أن تتطور لديه الحالة ليصاب بالطاعون الرئوي أيضا إذا استطاع الميكروب الانتقال إلى الرئة.
العلاج
يتم عزل المريض ووضعه في الحجر الصحي، وإعطاؤه مضادات حيوية قوية عن طريق الوريد أو الحقن العضلي لمدة عشرة أيام على الأقل، وغالبا ما يستخدم عقار الستريبتومايسين أو الجينتاميسين، وأحيانا السيبروفلوكساسين أو الكلورامفينيكول.
تحياتي للجميع