كانت الدولة الفارسية في الوقت المعاصر لنشوء دولة قريش وتدرجها ونموها حتى قيامها في يثرب على يد محمد بن عبد الله - عليه الصلاة والسلام - تعاني الكثير من المعضلات ، سواء في الداخل أو في الخارج ، من جيرانها وأخصها الإمبراطورية البيزنطية . والمراقب لأحوالها آنذاك يقطع بأن شمسها أخذت في الأفول وأول ما يشد الانتباه في هذا الصدد هو سرعة تعاقب الملوك على عرشها ، حتى أن بعضهم لم يهنأ به سوى شهور لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة ، وبعضهم أسابيع محدودة بل أيام قليلة وأحدهم - أو اثنان منهم ـ اغتيل ساعة جلوسه على سرير الملك ، وكان القتل وسمل العينين مصير بعضهم ، وبلغ بهم الأمر أن أحدهم قتل أباه وبضعة عشر أخاً له ، حتى يأمن تآمرهم عليه ، ولما فنى رجالهم ملكوا عليهم اثنين من نسائهم ، وطمع أحد قوادهم في الملك واستشرقت نفسه ليه رغم أن ذلك كان محرماً في تقاليدهم المتوارثة وهو ألا يخرج الملك عن آل ساسان ، ويبدو أن ذلك كان عرفاً مستقراً لدى الأسر الحاكمة في العصور الوسطى على الأقل في الشرق ، وهنا يرد ذاكرتنا الأثر المعروف " الأئمة من قريش " والذي عقب نتائج شديدة على التاريخ الإسلامي حتى الآن.
يرسم لنا الطبري صورة مروعة لملوك فارس " كسرى أبرويز طغى وشره شرها فاسداً .. بلغت خيله القسطنطينية وإفريقيا وكان يشتو بالمدائن ويصيف ما بينها وبين همذان .. كانت له 12000 جارية وقيل 3000 للوطء ، والباقيات للخدمة والغناء وغير ذلك .. احتقر الناس واستخف بما لا يستخف به الملك الرشيد الحازم .. وظلم أبناءه .. كان ملكه اثنتين وثلاثين سنة وشهور قتله الشعب بمساعدة ابنه شيرويه الذي قتل سبعة عشراً أخاً له ... وفشا الطاعون في أيامه .. كان ملكه ثمانية أشهر .. ثم ملك أردشير أبنه .. قتل بأمر شهر أبرويز .. كان ملكه سنة وستة أشهر .. ثم ملك شهر ابرويز .. ولم يكن من أهل بيت المملكة .. قتلوه وكانت فترة جميع ملكه أربعين يوماً .. ثم ملكت بوران بنت كسرى ابرويز بن هرمز بن كسرى انو شروان وكان ملكها سنة وأربعة أشهر .. ثم ملك بعدها رجل يقال له جسندة من بني ابرويز الأبعدين وكان ملكه أقل من شهر .. ثم ملكت آزر ميدخت بنت كسرى أبرويز .. قتلها القائد رستم وسمل عينيها وقيل سمها وكان ملكها ستة أشهر .. ثم ملك كسرى بن مهر جشنس قتل بعد أيام .. ثم ملك خرذاد خسروان من ولد ابرويز استعصوا عليه وخالفوه .. ثم ملك فيروز بن مهر جشنس ويقال أنه هو الذي تولى الملك مباشرة بعد آزر ميدخت بنت كسرى ابرويز .. قتل ساعة جلوسه على سرير الملك .. ثم ملك فرخزاد خسروا .. قتلوه بعد ستة أشهر .. ثم ملك يزدجرد بن شهريار بن كسرى ... وفي عهده ضعف أمر مملكة فارس واجترأ عليه أعداؤه من كل وجه وجربوا بلاده وتصرفوها وغزت العرب بلاده بعد أن مضت سنتان من ملكه وقيل بعد أن مضى أربع سنين من ملكه ) .
المصادر العربية التاريخية تختلف فيما بينها اختلافاً واضحاً في ترتيب سلسلة الملوك الفارسية ومدد حكمهم ، انما ننبه إلى ما سبق أن سطرناه أن القصد ليس التاريخ الدقيق ، إنما رسم الملامح البارزة لكل من فارس وبيزنطة في تلك الحقبة خاصة تلك التي اتفقت عليها المصادر العربية بشأن الإمبراطورية الساسانية بغض النظر عن التفاصيل . والذي خرجنا به من قراءتها أن تلك الدولة طفقت في الذبول ، وكان تعاقب الأكاسرة على عرشها بتلك الطريقة الفاجعة هو أحد المؤشرات البالغة الدلالة على ذلك .
يمتاز أبو حنيفة الدينوري - عن الطبري - بأنه حاول أن يقرن تاريخ بعض ملوك دولة العجم بتاريخ النبي محمد ( ص ) مؤسس الدولة في يثرب ( وولد رسول الله ص في آخر ملك أنو شروان فأقام بمكة إلى أن بعث بعد أربعين سنة ، فيها سبع سنين بقيت من ملك أنو شروان ، وتسع سنة ملكها هرمز بن كسرى أنو شروان ، وبعث وقد مضى من ملك كسرى ابرويز ست عشرة سنة وهاجر إلى المدينة وقد مضى من ملك ابرويز تسع وعشرون سنة ، فأقام بالمدينة عشر سنين وتوفى ( ص ) وآله تسليما بعد موت كسرى ابرويز فكان عمره ( ص ) ثلاثاً وستين سنة ) ( أبو حنيفة الدينوري ، الأخبار الطوال ، تحقق عبد المنعم عامر ، مراجعة جمال الدين الشيال ، من سلسلة " تراثنا " ، ط1 ، 1960 ، وزارة الثقافة والإرشاد القومي ، القاهرة ) .
وعلى ذلك وحسب رواية الدينوري يكون الرسول ( ص ) قد عاصر كلا من : أنو شروان هرمز وابرويز ، والذي يطبق عليه المؤرخون أن أنو شروان كان محمود السيرة بالمقاييس التي كانت سائدة في عصره ، والتي أقرها أولئك المؤرخون ، وكان ضابطاً لأمور مملكته ، ولكن الوهن بدأ يصيبها في زمن ابنه هرمزد ( فلما كانت سنة إحدى عشرة من ملكه حدق به الأعداء من كل وجه ، فاكتنفوه اكتناف الوتر سبتي القوس ، أما من ناحية الشرق فإن شاهنشاه الترك أقبل حتى صار إلى هراة وطرد عمال هرمز ، وأما من قبل المغرب فأن ملك الروم أقبل حتى شارف نصيبين ليسترد آمد وميا فارقين ودارا ونصيبين ، وأما من قبل أرمينية فإن ملك الخزر أوغل حتى أذربيجان فبعث الغارات فيها ( الدينوري ، الأخبار الطوال ، ص78 ، 79 ) .
وظلت الأحوال تسوء في عهده حتى تآمر عليه العظماء والأشراف والمرازبة ( أقبلوا على الملك هرمز فنكسوه عن سريره ، وأخذوا تاجه ومنطقته وسيفه وقباءه ، فأرسلوا بها إلى كسرى " ابرويز " وهو بأذربيجان ) (المرجع السابق ، ص84 ) وانتهى به الأمر إلى القتل الذي يرجع إلى طغيانه إذ أنه لم يكن خيار الأعاجم وسراتهم كما أنه " مولداً " إذ أن أمه كانت تركية أي لم يكن فارسياً خالصاً ، ثم تولى بعده ابرويز الذي وصفه الطبري كما أسلفنا بأنه طغى وشره شرهاً فاسداً وكانت لديه اثنا عشر ألف جارية منها ثلاثة ألف للوطء أي المتعة ، ويضيف البريجادير سير برسي ساكس أنه تزوج بمسيحية ذات جمال تسمى شيرين وأنه كان ميالاً للنصرانية ( البريجادير سير برسي ساكس ، الفصل السادس والثمانون " نهضة الفرس الحربية والثقافية " من كتاب تاريخ العالم بإشراف السيرجون أ . هامرتن أ . هامرتن ، المجلد الرابع ، أشرف على ترجمته قسم الترجمة بوزارة التربية والتعليم نشر مكتبة النهضة المصرية ) وروى المسعودي أن اسم هذه الزوجة مارية ، وأنها ابنة ملك الروم موريقوس ويبدو أن اسمها الأصلي كان مارية وبعد أن تزوجها كسرى أطلق عليها شيرين ، واستمر في جبروته وطغيانه حتى قتله الشعب بمساعدة ابنه شيرويه كما أورده الطبري فيما سبق ... ومن المحتمل أن يكون من بين دوافع الثورة عليه ثم قتله زواجه بنصرانية وميله إلى دين المسيح عليه السلام ـ وهو دين الإمبراطورية البيزنطية العدو اللدود للفرس . وباغتياله بدأ العد التنازلي لملك دولة الأعاجم الساسانية ، إذ تعاقب على عرشها ملوك متعددون لم يدم ملك أحدهم شهوراً أو أسابيع أو أياماً ، بل أن أحدهم قتل قبل أن يجلس على سرير الملك .
حتى انتهى الأمر إلى يزدجرد بن شهريار بن كسرى وفي عهده قوض العرب الإمبراطورية الفارسية وورثوا ملكها . وكانت للعرب صولة سابقة على الفرس ، وذلك في موقعة أو الحروب المعروفة بـ " ذقار " أو يوم " ذي قار " التي حدثت في عهد الملك ابرويز وكان النبي محمد ( ص ) قد أدرك أهمية هذه المعركة ، والنتيجة التي انتهت إليها في صالح العرب وما دلت عليه من ظهور علامات الشيخوخة على الدولة الساسانية وقد قال عليه السلام في حقه ( هذا أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم ونصرت عليهم بي ) ويقدر المسعودي عدد ملوك الدولة الساسانية باثنين وثلاثين منهم امرأتان .
ولعل كثرة حكام الإمبراطورية الفارسية في تلك الفترة وتداولهم سرير الملك لفترات قصيرة ترجع إلى ظلمهم للرعية ـ وخاصة المتأخرين منهم ـ وقتلهم الأشراف والمرازبة لأتفه الأسباب، وإلى إسرافهم الذي لا يرقى إلى تصوره خيال . والأوصاف التي حملتها كتب الأدب العربي وقصائد الشعر لـ ( إيوان كسرى ) وما جاء في كتب التاريخ الإسلامي عن الغنائم التي حصل الفاتحون العرب ما يقطع بذلك ، وسبق أن أوردنا عدد الجواري اللائى كان يمتلكهن كسرى ابرويز ويضيف المسعودي بأنه ( كان على مربطه خمسون ألف دابة وسرج ذهب مكللة بالدر والجوهر على عدد ما لركابه من الخيل وكان على مربطه ألف فيل منها أشهب أشد بياضاً من الثلج ومنها ما ارتفاعه اثنا عشر ذراعاً ) (المسعودي ، مروج الذهب ومعادن الجوهر ، ص210 ) وكان ذلك كله على حساب الرعية المحكومة بالسيف ، ومن ثم كانت تعيش في أحوال بلغت المنتهى في التدني و الانحطاط ولم يكن مستغرباً أن تتفشى فيها الأوبئة .. الفتاكة ، يحدثنا المسعودي عن شيرويه المشئوم فيقول ( وفي أيامه كان الطاعون بالعراق وغيرها من الأقاليم فهلك فيه مائتا ألف من الناس فالمكثر يقول : هلك نصف الناس والمقل بقول الثلث ) ( المسعودي ، المرجع السابق ، ص211 ) ومما أحدث اضطراباً في بنية المجتمع الفارسي وأثار النقمة العارمة بين أفراده هو ما يمكن أن نطلق عليه : التجميد الطبقي ومعناه أن أبناء كل طبقة يظلون تابعين لطبقتهم لا يغادرونها ولو تمتع أحد أفرادها بمواهب أو ملكات تؤهله للترقي إلى طبقة أعلى فيستحيل عليه ذلك ، كما أن الواحد من أفراد طبقة عالية يستمر فيها حتى ولو كان عاطلاً من أي ميزة . ولقد انتقد المفكرون الإسلاميون ذلك بشدة فيا بعد عندما اطلعوا على أحوال المجتمع الفارسي ( كانوا يحرمون على رعاياهم الترقي من مرتبة إلى مرتبة ومن ذلك ما يعوق التراكيب السوية عن كثير من الشيم الرضية ... وليس بشك أن تسخير العاقل الحر بالقهر والغلبة على المنزلة الواحدة وزجره عن اكتساب المحامد بالهمة العلية .. في الغاية من الاتضاع والخسة ) وقد يكون من الصائب أن نذكر أن ذلك كان أحد الدوافع التي حفزت الأعاجم إلى الترحيب بالفتح العربي الإسلامي لما سمعوه من أن دينهم يحض على المساواة بين الناس .
والشعوب مهما طال صبرها فأنها تثور ضد الطواغيت وحكام البغي ، وهذا أحد وجوه تفسير كثرة ملوك الفرس في تلك الفترة .
ومما ضاعف من سوء الأحوال الاقتصادية في دولة الفرس ، وزاد معاناة الشعب وتفاقم بؤسه ، الحروب العدية التي خاضها الأكاسرة سواء ضد الدولة الرومانية البيزنطية أو غيرها ، فهذه المعارك تتطلب نفقات باهظة وتسحب من سوق إنتاج الفلاحين والعمال الذين يقع على أكتافهم عبء الإنتاج ، ونتيجة لذلك تشح المنتجات فترتفع أثمانها وتغدو بعيدة عن متناول يد الفقراء بل والمتوسطين ، كما أن الجنود الذين يقتلون في ساحة الوغى أو يصابون هم أرباب أسر تصبح بعدهم بغير عائل أو معين وهكذا تقع أعباء هذه الحروب على كواهل القاعدة الشعبية العريضة مما يسارع من نقمتها على ملوكها فتساهم في الانتفاض عليهم .