الوصف في الشعر الجاهلي
العصر الجاهلي هو ذلك العصر الذي يصور لنا الحياة بمختلف أشكالها وألوانها في تلك الفترة حيث رسم لناتفاصيل حياة الجاهليين من جميع نواحيها .
فحياتهم الاجتماعية كانت تعتمد على التنقل والترحال المستمر بحثاً عن الكلأ والماء ، وكانت القبيلة هي النواة الاجتماعيةالتي يتألف منها المجتمع الجاهلي ، ومن هذا نستنتج أن لفظة الجاهلية لم تكن نتيجة جهلٍ أو تخلف في العلوم أو المعارف بل سميت جاهلية لانتشار العصبية القبلية وما يترتب عليها من صراع وثأر وانقسام
والأدب الجاهلي الذي وصل إلينا : شعر ونثر ،وإذا بحثنا عن المواضيع التي تطرق إليها الشعراء نجد أنها مواضيع تنوعت بتنوع الحياة والبيئة فمن الشعراء من تغزل بحبيته ، ومنهم من افتخر بنسبه وقبيلته ، ومنهم من وقف على آثار الديار فتأملها وأبدع في وصفها
فالوصف غرض من أغراض الشعر القديمة حيث واكب الإبداع الشعري منذ الجاهلية ولا يزال
غرضاً مطروقاًحتى اليوم ، والوصف يسير في مسلكين اثنين .
فهو إما أن يكون ممتزجاً مع غيره من الموضوعات الأخرى كالمدح والرثاء والفخر و......
وإما أن يكون غرضا مستقلاً بذاته .
فالوصف في الشعر الجاهلي منصرف إلى مظاهر الطبيعة الخارجية سواء كانت هادئة كالصحراء والرمال والجبال وما شاكل ذلك , أو حية متحركة كالإبل والخيل التي كان الجاهليون يركبونها والغزلان والنعامة والبقرة الوحشية ،ومع ذلك فإنهم لم يعالجوا إلا صنوفاً بعينها من حيوان الصحراء ، فقلما نجد في شعرهم ذكراً للفهد أو اليربوع أو الأرنب مع أنها أكثر اتصالاً بحياتهم
وها هو الحارث بن حلزة اليشكري يستهل مديحه بالوقوف على ديار الحبيبة , تلك الديار التي لم يبق من آثارها إلا القليل فهي تشبه الصحف الفارسية التي مرت عليها أزمانٌ وأزمان.....يقول :
لمن الديار عفون بالحبس آياتها كمهارق الفرس
وليس هذا فحسب بل إنه بحث في تلك الديار فلم يجد سوى قطعانٍ من البقر الوحشي المبيضة الخدود المسودة الجلودوالتي تلمع جلودها تحت أشعة شمس الصحراء الساطعة الحارة :
لا شيء فيها غير أصورة سفع الخدود يلحن كالشمس
إن الشاعر هنا يأبى إلا أن يقف عند حدودالمقابلة بين سوادها وبياضها فيعدو ذلك إلى تبين أثر الاقتران بين الضدين في العين، ثم في النفس فهن سود الخدود يلحن كالشمس .
،ثم يصف الناقة وآثارالجياد على الرمال وفي هذا البيت تكثر حروف المدمعتمدةً كلها على الألف يطلق نطقها وتتوزع خلال البيت توزعاُ عادلاً, وكأنها جميعاًتصور في انطلاقهاوانقباضها قفزات الجوادفي خببه فوق ملتويات الرمل الغليظ يقول :
أو غير آثار الجيادبأعـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــراض الجماد وآية الدعس
وهنانجد التجانس بين الجياد والجماد
وبعد أن يئس الشاعر من لقاء حبيبته لجأ إلى تلك الناقة السريعة والتي تشبه الذكر من الإبل فاعتلاها وباتت تدق الحصى بمناسمها التي تشبه المطرقة لقوتها وها هو يقول :
أنمي إلى حرفٍ مذكرة تهص الحصى بمواقعٍ خنس
ٍ أما الشاعر عائذ بن محصن الملقب بالمثقب العبدي لبيت قاله:
ظهرن بكلةٍ وسدلن أخرى وثقبن الوصاوص للعيون
فقد استهل قصيدته التي قالها في مديح عمرو بن هند ملك الحيرة بعتابٍ رقيق يوجهه إلى محبوبته ، ثم يصف رحيل الظعائن ، ويتسلى عنها بوصف ناقته ، وما يحملها من عناء في سفره الدائب إلى أن ينهيَ رحلته بالغاً رحاب الممدوح ، يقول
أفاطم قبل بينك متعيني ومنعك ما سألت كأن تبيني
فلا تعدي مواعد كاذباتٍ تمر بها رياح الصيف دوني
لمن ظعن تطلع من ضبيب فما خرجت من الوادي لحين
ولم يكتف الشاعر بعتاب حبيبته بل تعمق في وصف موكب الرحيل فصوره لنا أجمل تصوير وأرقه، إذ رسم لناالظعائن بصورة فائقة الجمال ، إن هؤلاء النسوة الجالسات على الهودج رائعات الجمال وعيونهن تقتل كل رجلٍ شجاعٍ قوي :
وهن على الرجائز واكنات قواتل كل أشجع مستكين
كغزلانٍ خذلن بذات ضالٍ تنوش الدانيات من الغصون
وليس هذا فحسب بل وصف النسوة وهن جالسات على الهودج وقد ثقبن الستر الرقيق لكي يشاهدن ما يمر عليهن في طريق رحلتهن ، يقول:
ظهرن بكلة وسدلن أخرى وثقبن الوصاوص للعيون
وبعد كل هذا الوصف الجميل للموكب الراحل تمتلئ نفس الشاعر بالهموم , فلا يجد بداً من أن يمتطي ناقته السريعة القوية
والتي تصرف عنه الهموم حيث تضرب الأرض بأخفافها كمطرقة الحداد 0000 يقول :
فسل الهم عنك بذات لوث عذافرةٍ كمطرقة القيون
وهنا يشخص لنا الناقة فيجعلها تتأوه وتتألم كإنسانٍ أتعبته الأسفار وأنهكت قواه كثرة الحل والترحال :
تقول إذا درأت لها وضيني أهذا دينه أبداً وديني
أكل الدهر حل وارتحال ٌ أما يبقي علي وما يقيني
أما الشاعر امرؤ القيس بن حجر الكندي الملقب بذي القروح فيعد رائداً للشعراء الجاهليين من بعده فهو الذي نهج لهم النسق النهائي للقصيدة بمهارة فنية ، أليس هو القائل :
قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فقد وقف واستوقف ،وبكى واستبكى من معه وذكر الحبيب والمنزل ،ويعتبر وصفه لجواده من أجمل ما قيل في هذا المجال ، فالحصان راحلة العربي في الجاهلية ووسيلته إلى بلوغ الغايات فلا عجب أن يفسح للحديث عنها مكاناً في شعره ويقيم بينه وبينها أروع أنواع الصداقة فها هو يقول : إنني أسبق طيور السماء قبل أن تنهض من عشاشها فأمتطي حصاني ، قصير الشعر عظيم الجسم الذي يسبق الوحوش سرعة ,وهو في سرعته يشبه الصخرة التي أسقطها السيل من مكانٍ عالٍ :
وقد اغتدي والطير في وكناتها بمنجرد قيد الأوابد هيكــــــــــــــــل
مكرٍ مفر مقبل مدبر مـعــــــــــاً كجلمود صخرٍ حطه السيل من عل
وليس هذا فحسب بل وصف لنا لونه الأحمر الضارب إلى السواد ، وملوسة ظهره حتى أن السرج يكاد ينزلق من فوق ظهره لشدة ملوسته وقد شبه ظهر الجواد بنعومة الصخرة التي لا تستقر عليها قطرة الماء يقول ملكنا الضليل :
كميت يزل اللبد عن حال متنه كما زلت الصفواء بالمتنزل
وتابع امرؤ القيس وصفه لجواده الذي رسمه لنا بكل جزئياته وكلياته ، فهو خفيف ، سريع رشيق قوي مثالي الجمال يجمع كل الصفات الجميلة المتكاملة الموجودة عند الحيوانات ويضعها في جواده الذي يأسر الألباب بجمال جسمه ورشاقته وخفته :
دريرٍ كخذروف الوليد أمره تقلب كفيه بخيط موصل
له أيطلا ظبي ، وساقا نعامة وإرخاء سرحان وتقريب تتفل
ولم يكتف الشاعر – في العصر الجاهلي –بوصف الأطلال والجواد والناقة بل انصرف أيضاً إلى وصف طيور السماء التي طربت
وراحت تغرد بأصوات مرتفعة ، وكأنها شربت من خمرة لاذعة بعد هطول المطر:
كأن مكاكي الجواء غديــــــــــة صبُحن سلافاً من رحيق مفلفل
أما الليل فقد صوره امرؤ القيس تصويراًيحاكي أحزانه وهمومه التي تصب أثقالها على الشاعرلتحيطه بالإرهاق والهم والغم ، إنه ليلٌ نجومه ربطت بأمراس إلى صخور شدت بحبال من كتان :
وليلٍ كموج البحر أرخى سدوله علي بأنواع الهموم ليبتلي
كأن الثريا علقت في مصامها بأمراس كتان إلى صم جندل
مما سبق نرى أن الشعر الجاهلي قد تعمق في موضوع الوصف إذ اتسم أسلوب الشعراء في قصائدهم بالمبالغة وهي شكل من أشكال تحسين الفكرة ويقبلها الإنسان ما دامت في حدود المنطق والعقل ،والإيجازسمة من سمات شعر الوصف فالكلمة الواحدة
قد ترسم صورة كاملة فوصف الفرس بقيد الأوابد، إيجاز لا نظير له فهو يعني التفوق ، والسبق ، وأن الوحوش متناولة إذا جرى وراءها ، فكأنها مقيدة أسيرة أمامه .
وأخيراً لا يسعنا إلا أن نقول : إن الشاعر الجاهلي لم يفرض إرادته الفنية على الأشياء التي وصفها بل كان يحاول نقلها إلى لوحاته نقلاً أميناًيبقي فيه على صورها الحقيقية دون أن يدخل عليها تعديلاً يمس جوهرها ، فأبلغ الوصف ما قلب السمع بصراً.