طرح المشكلة :
إنالتعقيد الذي تتميز به الحياة النفسية ، جعلها تحظى باهتمام علماء النفس القدامىوالمعاصرون ، فحاولوا دراستها وتفسير الكثير من مظاهرها . فاعتقد البعض منهم أنالشعور هو الأداة الوحيدة التي تمكننا من معرفة الحياة النفسية ، فهل يمكن التسليمبهذا الرأي ؟ أو بمعنى آخر : هل معرفتنا لحياتنا النفسية متوقفة على الشعور بها؟
– محاولة حل المشكلة :
- عرض الأطروحة :الأولى:
يذهب أنصار علم النفس التقليدي من فلاسفة وعلماء ، إلى الاعتقاد بأنالشعور هو أساس كل معرفة نفسية ، فيكفي ان يحلل المرء شعوره ليتعرف بشكلٍ واضح علىكل ما يحدث في ذاته من أحوال نفسية أو ما يقوم به من أفعال ، فالشعور والنفسمترادفان ، ومن ثـمّ فكل نشاط نفسي شعوري ، وما لا نشعر به فهو ليس من أنفسنا ،ولعل من ابرز المدافعين عن هذا الموقف الفيلسوفان الفرنسيان " ديكارت " الذي يرىأنه : « لا توجد حياة أخرى خارج النفس إلا الحياة الفيزيولوجية » ، وكذلك " مين دوبيران " الذي يؤكد على أنه : « لا توجد واقعة يمكن القول عنها أنها معلومة دونالشعور بها » . وهـذا كله يعني أن الشعور هو أساس الحياة النفسية ، وهو الأداةالوحيدة لمعرفتها ، ولا وجود لما يسمى بـ " اللاشعور " .
الحجة :
ويعتمد أنصار هذا الموقف على حجة مستمدة من " كوجيتو ديكارت " القائل : « أنا أفكر ، إذن أنا موجود » ، وهذا يعني أن الفكر دليل الوجود ، وانالنفس البشرية لا تنقطع عن التفكير إلا إذا انعم وجودها ، وان كل ما يحدث في الذاتقابل للمعرفة ، والشعور قابل للمعرفة فهو موجود ، أما اللاشعور فهو غير قابلللمعرفة ومن ثـمّ فهو غير موجود .
اذن لا وجودلحياة نفسية لا نشعر بها ، فلا نستطيع أن نقول عن الإنسان السّوي انه يشعر ببعضالأحوال ولا يشعر بأخرى مادامت الديمومة والاستمرار من خصائص الشعور .ثـم إن القول بوجود نشاط نفسي لا نشعر به معناهوجود اللاشعور ، وهذا يتناقض مع حقيقة النفس القائمة على الشعور بها ، فلا يمكنالجمع بين النقيضين الشعور واللاشعـور في نفسٍ واحدة ، بحيث لا يمكن تصور عقل لايعقل ونفس لا تشعر .وأخيرا ، لو كان اللاشعورموجودا لكان قابلا للملاحظة ، لكننا لا نستطيع ملاحظته داخليا عن طريق الشعور ،لأننا لا نشعر به ، ولا ملاحظته خارجيا لأنه نفسي ، وماهو نفسي باطني وذاتي . وهذايعني ان اللاشعور غير موجود ، وماهو موجود نقيضه وهو الشعور .
النقد :
ولكن الملاحظة ليست دليلا على وجود الأشياء ، حيث يمكن ان نستدلعلى وجود الشئ من خلال آثاره ، فلا أحد يستطيع ملاحظة الجاذبية أو التيار الكهربائي، ورغم ذلك فأثارهما تجعلنا لا ننكر وجودهما .
ثمإن التسليم بأن الشعور هو أساس الحياة النفسية وهو الأداة الوحيدة لمعرفتها ، معناهجعل جزء من السلوك الإنساني مبهما ومجهول الأسباب ، وفي ذلك تعطيل لمبدأ السببية ،الذي هو أساس العلوم .
عرض نقيض الأطروحة :
بخلاف ما سبق ، يذهبالكثير من أنصار علم النفس المعاصر ، أن الشعور وحده ليس كافٍ لمعرفة كل خباياالنفس ومكنوناتها ، كون الحياة النفسية ليست شعورية فقط ، لذلك فالإنسان لا يستطيع – في جميع الأحوال – أن يعي ويدرك أسباب سلوكه . ولقد دافع عن ذلك طبيب الأعصابالنمساوي ومؤسس مدرسة التحليل النفسي " سيغموند فرويد " الذي يرى أن : « اللاشعورفرضية لازمة ومشروعة .. مع وجود الأدلة التي تثبت وجود اللاشعور » . فالشعور ليسهـو النفس كلها ، بل هناك جزء هام لا نتفطن – عادة – الى وجوده رغم تأثيره المباشرعلى سلوكاتنا وأفكارنا وانفعالاتنا ..
الحجة :
وما يؤكد ذلك، أن معطيات الشعور ناقصة ولا يمكنه أن يعطي لنا معرفة كافية لكل ما يجري في حياتناالنفسية ، بحيث لا نستطيع من خلاله ان نعرف الكثير من أسباب المظاهر السلوكيةكالأحلام والنسيان وهفوات اللسان وزلات الأقلام .. فتلك المظاهر اللاشعورية لا يمكنمعرفتها بمنهج الاستبطان ( التأمل الباطني ) القائم على الشعور ، بل نستدل علىوجودها من خلال آثارها على السلوك . كما أثبت الطب النفسي أن الكثير من الأمراضوالعقد والاضطرابات النفسية يمكن علاجها بالرجوع إلى الخبرات والأحداث ( كالصدماتوالرغبات والغرائز .. ) المكبوتة في اللاشعور.
- النقد :
لا شك أنمدرسة التحليل النفسي قد أبانت فعالية اللاشعور في الحياة النفسية ، لكن اللاشعوريبقى مجرد فرضية قد تصلح لتفسير بعض السلوكات ، غير أن المدرسة النفسية جعلتهاحقيقة مؤكدة ، مما جعلها تحول مركز الثقل في الحياة النفسية من الشعور إلى اللاشعور، الأمر الذي يجعل الإنسان أشبه بالحيوان مسيّر بجملة من الغرائز والميول المكبوتةفي اللاشعور.
التركيب :
وهكذا يتجلى بوضوح ، أن الحياة النفسيةكيان معقد يتداخل فيه ماهو شعوري بما هو لاشعوري ، أي أنها بنية مركبة من الشعورواللاشعور ، فالشعور يمكننا من فهم الجانب الواعي من الحياة النفسية ، واللاشعوريمكننا من فهم الجانب اللاواعي منها .
حل المشكلة :
وهكذا يتضح ، أن الإنسان يعيش حياة نفسيةذات جانبين : جانب شعوري يُمكِننا إدراكه والاطلاع عليه من خلال الشعور ، وجانبلاشعوري لا يمكن الكشف عنه إلا من خلال التحليل النفسي ، مما يجعلنا نقول أن الشعوروحده غير كافٍ لمعرفة كل ما يجري في حيتنا النفسية