إنّ المادية المتوحشة الّتي تغلّبت حضارتها في الزّمن الحاضر، جعلت كثيرين منّا يغفلون عن حقائق خطيرة، خاصة ما تعلّق منها بجانب الغيب، الّذي هو أساس الإيمان، فنسى أو تناسى كثير من النّاس البعثَ والنشور والحساب واليوم الآخر، وغفل أو تغافل كثير من النّاس عن الشّيطان وعدواته المستحكمة لبني الإنسان.
قد يكون من حكمة تكرير قصّة آدم عليه السلام وإبليس اللّعين غرس هذه العداوة حتّى لا يتهاون فيها المؤمن، قال الحقّ سبحانه: {إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ}.
لكن في هذا الزّمن المادي الّذي استغوّل فيه أولياء الشّيطان، واستعلى فيه أهل العصيان، واختلّت القيم، وفسدت الأذواق، لا نعجب لِما نرى من انتشار معاصي، بل تحوّلها إلى شيء عادي، بل إلى موضة يتباهى بها مقترفوها!، ويتسارع الغافلون والمغفّلون إلى مضاهاتهم ومشابهتهم! إذ يكفي أن يفقد لاعبُ كرة قدم أو ممثل أو ممثلة أو عارضة أزياء وعيَه ويفسد ذوقه، فيقوم بعجيبة في شعره أو جسده أو لباسه حتّى ترى كثيرًا من النّاس - فتيانًا وفتيات وشبابًا وكهولاً، وفي بعض الأحيان شيوخًا وعجائزَ - يتهافتون على (تقليعته) السّخيفة، وموضته المضحكة، وذوقه الفجّ!.
وقد يكون خير مثال لهذا: موضة الوشم، الّتي انتشرت بين الغربيين، وخاصة عند اللاعبين (واللاعب يبقى لاعبا، وما يقوم به مجرد لعب، وإن صار مشهورًا غنيًّا!). وهذه الموضة إنّما هي موضة شيطانية وفكرة إبليسية توعّد بها إبليس الرّجيم بني آدم في الزّمن الأوّل، قال الله عزّ وجلّ: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا}.
فقد توعّدهم أوّلاً بأنّه سيضلّ عددًا منهم ليسيروا في طريقه، ويطيعوا أمره، ويكونوا معه في مصيره. وتوعّدهم ثانيًا بأنّه سيضلّهم عن طريق الحقّ؛ ليسيروا في طريق الباطل إلى النّهاية. وتوعّدهم ثالثًا بأنّه سيمنّيهم بالأماني الفارغة؛ ليجعلهم يجرون وراء الأحلام الواهمة، والأوهام الفاسدة، والأمنيات الكاذبة في طريق الغواية، من لذّة كاذبة، وسعادة موهومة، وحرية مطلقة، ونجاة من الجزاء في نهاية المطاف!. وتوعدهم رابعًا بأنّه سيدفع بهم إلى أفعال قبيحة، وشعائر سخيفة، من نسج الأساطير، كتمزيق آذان بعض الأنعام، ليصبح ركوبها بعد ذلك حرامًا، أو أكلها حرامًا دون أن يحرّمها الله. وتوعّدهم خامسًا بأنّه سيأمرهم بتغيير خلق الله، وتغيير خلق الله يشمل فيما يشمل: تغيير دينه الّذي هو فطرة الله الّتي فطر النّاس عليها، بتحليل الحرام وتحريم الحلال كما هو مشاهد معيش، ففي فرنسا منعت النّساء المسلمات من النّزول إلى البحر مستورات، وأعلن بالأمس عمدة باريس على قرب افتتاح ساحة خاصة للعراة في باريس، وهذه هي الحضارة، والديمقراطية، والسّخافة البشرية!
كما يشمل تغيير خلق الله تغيير خِلقة الإنسان الظّاهرة بالوشم، والوشر وهي الّتي تحديد المرأة أسنانها وترق أطرافها، والنّمص وهو نتفها الشّعر من وجهها، والتّفلّج هو تفريقها بين أسنانها، والوصل وهو وصلها شعرها بشعر آخر. وذلك يتضمّن التّسخّط من خِلقته سبحانه والقدح في حكمته، وعدم الرِّضا بتقديره وتدبيره، واعتقاد أنّ ما يصنعون بأيديهم أحسن من خلقة الرّحمن؛ ولذلك لعن صلّى الله عليه وسلّم مَن يفعل ذلك، فعن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه: «أَنَّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم لَعَنَ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ». وعن عَلِيٍّ رضي الله عنه أنَّهُ قال: «لعن رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُتَوَشِّمَةَ»، فانظر كيف جمعها في اللّعن مع الرّبا الّذي آذن اللهُ عزّ وجلّ أهلَه بحرب منه. ثمّ انتبه إلى أنّه صلّى الله عليه وسلّم اقتصر على الواشمة والمتوشّمة ولم يذكر الواشم والمتوشّم؛ لأنّ في الجاهلية الأولى كانت هذه الأمور إنّما يفعلها النّساء، ونحن في زمن صار من الصّعب التّفريق بين بعض الذكور وبعض النّساء؛ ولهذا قال الإمام الرّازي رحمه الله في تفسيره: “قال ابن زيد {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ} هو التخنّث، وأقول: يجب إدخال السّحاقات في هذه الآية على هذا القول؛ لأنّ التّخنّث عبارة عن ذكر يُشبِه الأنثى، والسّحق عبارة عن أنثى تشبه الذكر”. ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.
أفليس هذه سخافات يجرّ إبليس النّاس إليها جرًّا؟، وإلاّ كيف يغيّر إنسان عاقل جمال جلده الّذي أبدعه الخالق الكريم سبحانه برسومات سخيفة وألوان مقزّزة؟!. ويفرح بذلك!، ويحسب بأنّه قام بعمل رائع؟! ولكن هكذا هي السّخافة!، وهكذا هو الإنسان حين يصير لعبة بيد الشّيطان.
إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة - %D8%B4%D8%B1%D9%8A%D8%A9/#sthash.Ri3h7VxL.dpuf