وَرَدَ عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه كان إذا أقبل شهر رمضان يقول: “أتاكم رمضان شهر بركة، يغشاكم الله فيه، فينزل الرّحمة، ويحطّ الخطايا، ويستجيب فيه الدّعاء، ويُباهي بكم ملائكته، وينظر فيه إلى تنافسكم في الخير، فأروا الله من أنفسكم خيرًا، فإنّ الشّقي من حُرِم فيه رحمة الله عزّ وجلّ”.
إنّ الله تعالى يُباهي بالصّائمين ملائكته فيقول: انظروا إلى عبادي، انظروا إلى الصّائمين في النّهار، انظروا إلى مَن أقاموا اللّيل رُكَّعًا سُجَّدًا بين يدَيَّ، انظروا إلى مَن قضوا اللّيل مع قرآني يتلونه ويتدبّرون آياته، وهذه علامات من علامات الحبّ لله تبارك وتعالى، يقول ابن القيم: “إنّ اللّيل أُنس المحبّين، وروضة المشتاقين، ومدرسة الصّالحين، من هذه المدرسة تخرَّج العارفون بالله، وتخرَّج الصّادقون مع الله، إنّ عباد الله الصّالحين ينتظرون هذا اللّيل يرعونه بالنّهار كما يرعي الرّاعي غنمه، ويحنون إلى غروب الشّمس كما تَحِنّ الطّير إلى أوكارها، حتّى إذا ما جنّهم اللّيل، واختلط الظّلام، وبسطت الفُرش، وخلا كلّ حبيب بحبيبه قام عباد الله الصّالحون فنصبوا إلى الله أقدامهم، وافترشوا جباههم، وناجوا ربّهم طيلة اللّيل بقرآنه، وتضّرعوا إليه تبارك وتعالى، وطلبوا منه تكرّمه وإنعامه وإحسانه.
فمُباهاة الله بنا ملائكته عندما نكون على الأحوال الّتي يرضاها سبحانه، فهذا ذاكر لله، وهذا صائم لله، وهذا صابر لله، وهذا شاكر لله، وهذا مُحسن لله، وهذا مستغفر لله، وهذا متصدّق على الفقراء والمساكين لوجه الله. أخرج الحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن عمرو أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: “الصّيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصّيام: أي ربّي، منعتُه الطّعام والشّراب والشّهوة، فشفِّعني فيه، ويقول القرآن: أي ربّي، منعته النّوم باللّيل فشفّعني فيه”، انظر إلى هذه البِشارة النّبويّة: “فيشفعان”، أي: فيَشفع الصّيام فيك أيّها الصّائم، ويشفع القرآن فيك أيّها القارئ، فيا لها مِن كرامة، ويا له من فضل، ويا لها من رحمات.
فإذا باهى الله بنا ملائكته، وشفّع فينا الصّيام والقرآن، فإنّ الجائزة والمِنحة في انتظارنا، تاالله إنّها لصفقة مربحة، صفقة عرضت علينا فنربَح فيها جنّة عرضها السّماوات والأرض، بفضل الصّيام والقيام والقرآن، فيغفر الله لنا معشر الصّائمين: “مَن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدّم من ذنبه”، صفقة عظيمة، ورحمة كريمة من الله سبحانه.
فهيّا أيّها الصّائم أقْبِل إلى ربّك، عُد إلى الله، ارجع إليه، استغفر الله عزّ وجلّ، وامش بين يديه، وقِفْ على بابه ذليلاً خاشعًا طالبًا منه العفو والرّحمة والغفران، ولا تيئس ولا تقنط مهما ارتكبت من الذّنوب والمعاصي، حتّى لو وقعت في الكبائر، عُد إلى ربّك، واعلم بأنّ عفو الله أعظم من كبائرك، وأعظم من ذنوبك، وأعظم من معاصيك: “ينزل ربّنا كلّ ليلة إلى السّماء الدّنيا حين يمضي ثلث اللّيل الأوّل فيقول: أنا الملك، أنا الملك، مَن ذا الّذي يدعوني فأستجيب له، مَن ذا الّذي يسألني فأعطيه، من ذا الّذي يستغفرني فأغفر له”، فقُم يا عبد الله في هذا اللّيل، وكُن من السّاجدين بين يدي ربّك، كن من القائمين، كن من الذّاكرين والمستغفرين في الأسحار.
إنّ خالقك يُناديك، فهل أنت ممّن سيقول لربّه: ها أنذا يا ربّ بين يديك، أسألُك العفو والمغفرة، أسألك أن تغفر لي ما قد سلف من الذّنوب والعصيان، وكُن على يقين بأنّ الله عزّ وجلّ سيستجيب منك الدّعاء: “قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ”، أمَا علمتَ أنّك إذا عُدتَ إلى الله فإنّه سيفرَح بتوبتك وأوبتك وعودتك، وهو الغنيّ عنك فلا تنفعه طاعتك، ولا تضرّه معصيتك: “يا عبادي، لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أتْقَى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا”. والله وليّ التّوفيق.
*إمام مسجد عمر بن الخطّاب -بن غازي - براقي