أُطْلِق على الفترة الّتي سبقت الإسلام لقب الجاهلية كما هو معلوم، وقد ذكر هذا المصطلح أربع مرّات في القرآن الكريم. وقد فهم بعض النّاس خطأ أنّ الجاهلية هي الجهل، والحقّ أنّ الجاهلية شيء والجهل شيء، فأهل الجاهلية لم يكونوا جهّلاً، بل نقل عنهم الكثير من الحِكمة والإبداع وحسن تدبير المعاش، وشعرهم شاهد على ذلك، إنّما انحرف تفكيرهم وفسدت عقولهم فنسبوا إلى الجهل، لأنّ الجاهل أحسن حالاً من العالم العاقل الّذي انحرف تفكيره وانتكس عقله، فالأول يُعلم فيتعلّم، أمّا الثاني فهو يفلسف خطأه ويردّ الحقّ الصّراح وهو يحسب أنّه على حقّ.
قال العلامة أبو الحسن النّدوي رحمه الله: “بعث الله محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلّم والعالم بناء أصيب بزلزال شديد هزّه هزّا عنيفًا، فإذا كلّ شيء فيه في غير محلّه.. فنظر إلى العالم بعين الأنبياء فرأى إنسانًا هانت عليه إنسانيته.. رأى إنسانًا معكوسًا قد فسدت عقليته فلم تعد تسيغ البديهيات وتعقل الجليّات، وفسد نظام فكره، فإذا النّظريّ عنده بديهيّ وبالعكس، يستريب في موضع القطع، ويؤمن في موضع الشّكّ..”.
ومن صور فساد العقل واختلال التّفكير عندهم ما ذكر الله سبحانه من قولهم: “وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ”، ولو سلمت عقولهم واستقام تفكيرهم لقالوا: فاهدنا له ويسِّر الهدى لنا!، ولكنّه منطق الجاهلية!.
ومن هنا لا نتعجّب لمّا نجد عالمًا كبيرًا في الفيزياء أو الفلك أو الرياضيات أو غيرها من العلوم ثمّ نجده يسجد لبقرة أو يؤمن بالتّثليث أو يدّعي الإلحاد، فما هذا إلاّ صورة من صور انحراف التّفكير الجاهلي!. - .dpuf