رمضان واحة الإيمان " حفظ اللسان" (9-14 )
أيمن الشعبان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خصنا بشهر الطاعات، وأجزل لنا فيه المثوبة ورفع الدرجات، وَعَدَ من صامه إيمانا واحتسابا بتكفير الذنوب والسيئات، وشرّف أوقاته على سائر الأوقات، والصلاة والسلام على نبينا محمد خير البريات، وعلى آله وصحبه أولي الفضل والمكرمات،والتابعين لهم بإحسان إلى يوم المعاد، وبعد:
من معاني هذا الشهر العظيم، أنه معسكر تدريبي، ومدرسة نموذجية، وواحة إيمانية، لحفظ اللسان، وصيانته من الباطل واللغو والكلام الفاحش والبذيء، واستثماره بذكر الله وتلاوة القرآن والدعاء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم الناس الخير.
هذا العضو نعمة عظيمة ومنة جليلة، ومع صغر حجمه إلا أن ثمرته عظيمة لمن علم وفقه وعقل، وجرمه كبير لمن أطلق له العنان وصار أسيرا للسان! فهو سلاح ذو حدين!
بل جعل عليه الصلاة والسلام، المعيار والمقياس والفيصل، بين الصيام الحقيقي والصيام الصوري؛ حفظ اللسان وضبطه عن قول الزور والباطل، حيث يقول صلى الله عليه وسلم( مَن لَم يدَع قَولَ الزُّورِ والعمَلَ بِه والجَهلَ، فليسَ للَّهِ حاجَةٌ أن يدَعَ طعامَه وشرابَهُ )[1].
قال المهلب: فيه دليل أن حكم الصيام الإمساك عن الرفث وقول الزور، كما يمسك عن الطعام والشراب، وإن لم يمسك عن ذلك فقد تنقص صيامه وتعرض لسخط ربه وترك قبوله منه.[2]
قول الزور هو الكذب والبهتان، كما قال سبحانه( فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور )، وهو كل قول باطل من شهادة الزور والغيبة والنميمة والقذف والبهتان والسب والشتم واللعن وغيرها مما يجب على الإنسان تركه واجتنابه.
فمن حقق الأمرين: ترك المفطرات، وترك المنهيات، تم له أجر الصائمين. ومن لم يفعل ذلك فلا يلومن إلا نفسه.[3]
" من لم يدع قول الزور والعمل به " أي من لم يترك القول الباطل والكلام المحرّم أثناء صومه من الكذب وشهادة الزور، والغيبة والنميمة والقذف والشتيمة.[4]
يقول شيخ الإسلام: والأعمال الصالحة لها مقصودان: حصول الثواب، واندفاع العقاب.
فإذا فعلها مع المنهيات من الغيبة والنميمة وأكل الحرام وغيره فاته الثواب.[5]
يقول ابن الجوزي: ولا بد من ملازمة الصمت عن الكلام الفاحش والغيبة فإنه ما صام من ظل يأكل لحوم الناس.[6]
وفي الحديث الآخر المتفق عليه( إذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ شَاتَمَهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ... ).
الرفث هو الجماع ومقدماته، ويطلق ويراد به الفحش.
ولا يصخب: أي لا يصرخ ولا يصيح ولا يخاصم، ولا يرفع صوته بالهذيان والسخرية والاستهزاء والاعتداء على الآخرين بكلامه.
قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه : إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم.
حذرنا الله سبحانه وتعالى من خطورة اللسان في غير ما آية، وأكثر وفصل بدقة عليه الصلاة والسلام من بيان خطورة اللسان وآثاره الوخيمة، في الدنيا والآخرة، وقد اعتنى السلف الصالح به عناية بالغة وجاهدوا أنفسهم كثيرا لحفظه والتواصي بذلك.
يقول ربنا سبحانه وتعالى( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ )[7].
ويقول عليه الصلاة والسلام( لا يستقيمُ إيمانُ عبدٍ حتى يستقيمَ قلبُه، و لا يستقيمُ قلبُه حتى يستقيمَ لسانُه، و لا يدخلُ رجلٌ الجنةَ لا يأمَنُ جارُه بوائقَه )[8].
ويقول عليه الصلاة والسلام ( إن العبدَ ليتكلمُ بالكلمةِ، ما يتبيَّنُ ما فيها، يهوي بها في النارِ، أبعدَ ما بينَ المشرقِ والمغربِ )[9].
يقول عليه الصلاة والسلام( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت )[10].
وقال عليه الصلاة والسلام لمعاذ بعد أن ذكر أركان والإسلام : ألا أخبرُك بمِلاكِ ذلِك كلِّه؟ قلتُ: بلَى، يا نبيَّ اللهِ، فأخذَ بلسانِهِ، وقال: كُفَّ عليكَ هذا، فقُلتُ: يا نبيَّ اللهِ، إِنَّا لمؤاخَذونَ بما نتَكلَّمُ بِه؟ قال: ثَكلتكَ أمُّكَ يا معاذُ، وَهل يَكبُّ النَّاسَ في النَّارِعلَى وجوهِهِم، أو علَى مناخرِهم، إلَّا حصائدُ ألسنتِهم.
وأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه بِطَرَفِ لِسَانِهِ فِي مَرَضِهِ، فَجَعَلَ يَلُوكُهُ، وَيَقُولُ: هَذَا أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ.[11]
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ آخِذًا بِلِسَانِهِ وَهُوَ يَقُولُ: بِاللِّسَانِ: قُلْ خَيْرًا تَغْنَمْ أَوِ اصْمُتْ تَسْلَمْ قَبْلَ أَنْ تَنَدَّمَ.[12]
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه: وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهُ غَيْرُهُ، مَا عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ شَيْءٌ أَحَقُّ بِطُولِ السِّجْنِ مِنَ اللِّسَانِ.[13]
وسأل رجل حكيما فقال: متى أتكلم؟ قال: إذا اشتهيت الصمت. فقال: متى أصمت؟ قال: إذا اشتهيت الكلام.[14]
قال النووي في الأذكار : بلغنا أن قس بن ساعدة وأكثم بن صيفي اجتمعا, فقال أحدهما لصاحبه : كم وجدت في ابن آدم من العيوب ؟ فقال: هي أكثر من أن تحصى, والذي أحصيته ثمانية آلاف عيب, فوجدت خصلة إن استعملتها سترت العيوب كلها .. قال: ما هي؟ قال: حفظ اللسان.
احفظ لسانك أيها الإنسان * لا يلدغنك إنه ثعبان
كم في المقابر من صريع لسانه * كانت تهاب لقاءه الشجعان!
قَالَ بعض قُضَاة عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ وَقد عَزله: لم عزلتني؟ قَالَ: بَلغنِي أَن كلامك مَعَ الْخَصْمَيْنِ أَكثر من كَلَام الْخَصْمَيْنِ إِلَيْك![15]
فاللسان خطره عظيم وضرره جسيم، إن لم يتعاهده العبد ويحفظه من فضول الكلام والقيل والقال، فضلا عن الآفات.
رمضان فعلا فرصة حقيقية لحفظه وإيقافه عند حده، وعدم إطلاق العنان له في كل ما يشتهي من الحديث، فالسعيد المفلح من خرج من هذا الشهر بلسان منضبط وكلام محسوب مسدد.