مقدمــة :
لكي يقوم التنازع يجب أن نكون بصدد علاقة قانونية تشمل على عنصر أجنبي, أي أن يكون الأطراف فيها أجانب أو أن يكون موضوعها أو سببها أجنبيا.فتكمن المرحلة الأخيرة لفض النزاع الذي يشتمل على عنصر أجنبي في تعيين القانون الواجب التطبيق , فإذا أشارت قاعدة التنازع في القوانين الجزائرية إلى تطبيق القانون الجزائري فليس هناك أي إشكال لكن إذا عينت قاعدة التنازع قانونا أجنبيا فانه في هذه الحالة تبرز عدة إشكالات أبرزها
هل يعتبر القانون الجزائري القانون الأجنبي كقانون أم كواقعة ؟ وماهي الحالات التي يتم فيها استبعاد القانون الأجنبي رغم كونه القانون الواجب التطبيق؟
المبحث الأول /تطبيق القانون الأجنبي .
سوف نشير في هذا المبحث إلى أساس تطبيق القانون الأجنبي في دولة القاضي و كيفية إثباته و تفسيره.
المطلب الأول /أساس تطبيق القانون الأجنبي
ظهرت عدة نظريات في هذا المجال نوردها فيما يلي:
الفرع الأول :النظرية الهولندية :
تأخذ هذه النظرية بقاعدة إقليمية الأحوال إقليمية مطلقة و تقول بقبول تطبيق القانون الأجنبي على أساس المجاملة الدولية.
وقد أسيئ فهم هذه النظرية من البعض حيث ظنوا أن من شانها أن تجعل تطبيق القانون الأجنبي منوطا بمزاج القاضي إن شاء طبقه و إن شاء رفضه,في حين أن واقع هذه النظرية يقول بان الدولة وهي بصدد وضع قواعد التنازع في قوانينها ليست ملزمة بتطبيق القانون الأجنبي و أنها إذا قبلت ذلك فإنما يكون على أساس المجاملة الدولية ومتى تم تطبيقه على هذا الأساس التزم القضاء بذلك.(1)
وقد ترتب على سوء فهم هذه النظرية هجرانها من قبل الفقه.
الفرع الثاني/نظرية الحقوق المكتسبة :
يتزعم هذه النظرية فقهاء انجليز وأمريكان وقد ذهبوا إلى القول بان القاضي يطبق القانون الأجنبي في بلده احتراما منه للحق المكتسب الذي رتبه هذا القانون لصاحب الحق ,فلا يمكن للقاضي النظر في حق مكتسب في الخارج إلا بالرجوع إلى القانون الأجنبي الذي نشا هذا الحق تحت سلطانه.(2)
وقد اعترض على هذه النظرية بأنها غير شاملة لان تطبيق القانون الأجنبي لا يقتصر على حالات احترام حقوق مكتسبة بل يتعين تطبيق القانون الأجنبي في حالات إنشاء حقوق لم تكن موجودة من قبل فذلك يجعل القانون الأجنبي لا يعدو أن يكون مجرد واقعة يبحث القانون عن وجودها.
الفرع الثالث/نظرية الاستقبال و الاستيعاب.
يتزعم هذه النظرية الفقهاء الايطاليين الذين اعترفوا للقانون الأجنبي بطبيعته القانونية .وتبرر هذه النظرية تطبيق القانون الأجنبي بإدماجه في القانون الوني الداخلي أي في قانون القاضي فيصبح القاضي عند تطبيقه القانون الأجنبي كأنما يطبق قاعدة التنازع في قانونه هو,وقد اختلف الفقهاء الايطاليون حول طبيعة هذا الاندماج فالبعض بقول بالاندماج المادي و البعض الأخر يقول بالاندماج الشكلي, حيث فال بالاندماج المادي الفقيه الايطالي آنزيلوتي إذ يرى بان مضمون القانون الأجنبي يدمج في النظام القانوني الايطالي و يتصور قاعدة الإسناد على أنها قاعدة فارغة المضمون تمتص و تستقبل مضمون القوانين الأجنبية التي تشير إلى تطبيقها و بالتالي فان قاعدة الإسناد تعد قاعدة مباشرة تطبق على النزاع مباشرة.وعليه فلما يطبق القاضي الايطالي القاعدة الأجنبية فكأنما طبق قانونه الداخلي.(1)
وقد عيب على هذه النظرية أن القاعدة القانونية الأجنبية باعتبارها أصبحت قاعدة قانونية وطنية تخضع في تفسيرها إلى المفاهيم السائدة في بلد القاضي و هو الأمر الذي يؤدي إلى تشويه القانون الأجنبي.
أما الفقهاء القائلين بالاندماج الشكلي و على رأسهم روبرتو آقو فقد ذهبوا إلى اعتبار الاندماج شكلي لا مادي .فرغم إدماج القانون الأجنبي في النظام القانوني للقاضي تبقى القاعدة القانونية الأجنبية محتفظة بمعناها ومقوماتها التي تتمتع بها أصلا في بلادها.ومع ذلك انتقضت هذه النظرية كذلك لكونها بعيدة عن الحقيقة.(2)
الفرع الرابع/ تطبيق القانون الأجنبي بناءا على تفويض:
ترى طائفة من الفقهاء الفرنسيين و الألمان أن المشرع الأجنبي يأمر القاضي الوطني بتطبيق القانون الأجنبي بناءا على تفويض من قواعد الإسناد الوطنية أي يطبق القانون الأجنبي بناءا على تفويض من قواعد الإسناد الوطنية تعقده للمشرع الأجنبي.
الفرع الخامس /معاملة القانون الأجنبي معاملة الوقائع:
ويتزعم هذا الاتجاه في فرنسا الأستاذ باتيفول الذي ذهب إلى معاملة القانون الأجنبي باعتباره عنصر من عناصر القانون ولم يعامله باعتباره قانونا ,أي أن القاضي غير ملزم بتطبيقه تلقائيا ,فالقانون عند باتيفول له عنصران عنصر آمر وعنصر عقلي و هو مضمونه.ولما يطبق القانون خارج بلاده يفقد عنصر الآمر و لا يبقى له سوى العنصر العقلي الذي يطبقه القاضي .و عليه فان تطبيق العنصر العقلي وحده للقانون الأجنبي يجعله مجرد واقعة .وقد اعترض على هذا الرأي لأنه يقوم على نقطة كبداية تعد في ذاتها خاطئة. فإذا كان صحيحا أن القاعدة القانونية عبر الحدود يجردها من عنصرها الأمر فإن دور قاعدة الإسناد هو أن ترد لها العنصر الذي فقدته.(2)
موقف المشرع الجزائري:
أخد المشرع الجزائري بالتمييز بين الحالة التي يتمكن فيها القاضي من إثبات مضمون القانون الأجنبي و حالة عدم إمكانية إثباته له, فإذا تمكن من إثباته اعتبر القانون الأجنبي كقانون و في حالة تعذر إثباته اعتبره كواقعة.
المطلب الثاني/إثبات تطبيق القانون الأجنبي:
الفرع الأول /تحديد من يقع عليه عبء إثبات مضمون القانون الأجنبي.
تختلف القوانين في تحديد القانون الأجنبي ,فهناك من تعامله معاملة الوقائع وهناك من تعامله معاملة القانون.
فالقوانين التي تعامله معاملة الوقائع تجعل عبء الإثبات على عائق الخصوم ونذكر من هذه القوانين القانون الفرنسي فقد ألقت محكمة النقض الفرنسية عبء إثبات القانون الأجنبي على عاتق الخصم الذي تمسك بتطبيقه و أجازت أيضا لقضاة الموضوع اللجوء إلى الخبرة لما يكون الخصوم قد قدموا شهادات متناقضة عن مضمون القانون الأجنبي,مما يفيد أن القاضي من جهة غير مرتبط بما يقدمه له الخصوم من إثبات لمضمون القانون الأجنبي, ومن جهة أخرى انه بإمكانه لتكوين اقتناعه اللجوء إلى معرفته الشخصية بالقانون الأجنبي.(1)
أما القوانين التي تعامل القانون الأجنبي معاملة القانون فإنها تلقي عبء الإثبات القانون الأجنبي على عاتق القاضي وليس الخصوم مع إمكانية القاضي الاستعانة بالخصوم.(2)
الفرع الثاني /كيفية إثبات مضمون القانون الأجنبي.
ونقصد بها بيان الوسائل التي تقيم الدليل على محتوى هذا القانون.
فإذا كان عبء الإثبات يقع على الخصوم فيمكنهم أن يثبتوا مضمون القانون الأجنبي بعدة وسائل سواء كان ذلك عن طريق الخبراء أو عن طريق تقديم نصوص القانون الأجنبي نفسها أو ترجمتها أو عن طريق الشهادات العرفية و باستعمال طرق أخرى كاللجوء إلى المؤلفات الفقهية و الأحكام القضائية.(3)
أما إذا كان عبء الإثبات واقع على القاضي فبإمكانه السعي بوسائله الخاصة أو وسائل حكومته للتوصل إلى مضمونه و في بعض الأنظمة كالنظام القانوني الألماني يمكنه الاستعانة بالخصوم.(1)
الفرع الثالث/الحل المتبع عند استحالة التوصل إلى مضمون القانون الأجنبي.
لقد تعددت الحلول المقدمة من الفقه و أهمها:
امتناع القاضي عن الفصل في النزاع إلا أن هذا الحل يؤدي بالقاضي إلى ارتكاب جريمة إنكار العدالة.
تطبيق المبادئ العامة السائدة في الأمم المتقدمة و التي يتصور بان القانون الأجنبي متطابق معها, غير أن هذا الحل يصعب تطبيقه لما يتميز به من عموم.
[ تطبيق القانون الأقرب إلى القانون الأجنبي مما يؤدي إلى حل للنزاع يكون قريب من الحل الذي كان سيتوصل إليه القانون الأجنبي المختص أصلا لو عرف مضمونه إلا أن هذا الحل منتقد بالنظر إلى صعوبة التأكد من مدى التقارب بين التشريعات المختلفة.
تطبيق قانون القاضي ,وقد اختلف دعاة هذا الحل حول أساس تطبيقه حيث يقول البعض بتطبيقه على أساس افتراض التماثل بين القانون القاضي و القانون الأجنبي المختص وقد افتقد لقيامه على مجرد حيلة قانونية بعيدة عن الواقع,في حين يرى البعض الآخر بان تطبيق قانون القاضي يجد اختصاصه لكونه صاحب الاختصاص العام لحكم كافة علاقات القانون الخاص,غير أن القول بهذا الأساس يتنافى مع طبيعة العلاقات الدولية و التي الأصل فيها تطبيق القانون الذي تشير إليه قواعد الإسناد.(2)
موقف المشرع الجزائري:
يبرز موقف المشرع الجزائري من خلال نص م23مكررق م حيث جاء فيها "يطبق القانون الجزائري إذا تعذر إثبات القانون الأجنبي الواجب تطبيقه.
المطلب الثالث /تفسير القانون الأجنبي
الفرع الأول/كيفية تفسير القانون الوطني للقانون الأجنبي:
ونقصد به تقيد القاضي الوطني عند تفسير القانون الأجنبي بالتفسير السائد في الدولة التي صدر فيها أم أن دوره لا يختلف عن دوره في تفسير قانونه؟
يرى الفقه الغالب أن القاضي يتقيد عن تفسيره للقانون الأجنبي بالقانون السائد في الدولة التي أصدرته و قد أكد القضاء الفرنسي في الكثير من أحكامه بان القاضي ملزم باحترام تفسير القضاء الأجنبي لنصوص قانونه حتى ولو لم يكن مصدرا رسميا لقواعد القانون .وهذا ما أكدته المحكمة العليا الدائمة لمحكمة العدل الدولية التي جاء في احد نصوصها :"لا يمكن إعطاء القانون الوطني الأجنبي معنى غير المعنى الذي أعطاه له قضاؤه"
إلا انه قد يحدث أن القانون الأجنبي لم يكن محل لأي تفسير في بلده و في هذه الحالة على القاضي الوطني أن يتقيد بما يتقيد به القاضي الأجنبي من مبادئ وأصول التفسير السائدة في بلده.(1)
الفرع الثاني/رقابة المحكمة العليا على تفسير القانون الأجنبي
عادة ما يخطئ القاضي في تفسير القانون الأجنبي فهل يخضع خطئه هذا لرقابة المحكمة العليا ؟
إذا ما اعتبرنا القانون الأجنبي كواقعة أمام قاضي الموضوع فالمحكمة العليا سوف تعتبره كذلك و بالتالي لا تراقب تفسير القانون الأجنبي المطبق من قبل قاضي الموضوع ,وهو ما ذهبت إليه محكمة النقض الفرنسية و الكثير من الدول الأوروبية ,وفي مقابل هذا الموقف لبسط المحكمة العليا لرقابتها على تفسير القانون الأجنبي هناك موقف آخر يسمح لها بهذه الرقابة وهو في حالة اعتبار القانون الأجنبي كقانون ,ومن الواضح بان هذا الرأي متأثر بالنظرية القائلة بإدماج القانون الأجنبي المختص في النظام القانوني الوطني.(2)
الفرع الثالث /تحديد الشريعة الداخلية الواجبة التطبيق في الدولة المتعددة الشرائع:
قد يكون القانون الأجنبي المختص وفقا لقواعد الإسناد الوطنية هو قانون دولة تتعدد فيها الشرائع, بحيث يثير هذا التعدد التشريعي مشكلة بالنسبة للقاضي في تحديد الشريعة الداخلية التي تطبق على النزاع,
فهل يترك القاضي مهمة الشريعة الداخلية للدولة متعددة الشرائع أم انه يسترشد بقانونه في تحديد الشريعة الداخلية الواجب التطبيق؟
المشرع الجزائري أغنانا عن الخوض في الجدل القائم في هذه المشكلة وذلك بنصه على حلها في م23ق م ج والتي تنص :"متى ظهر من الأحكام الواردة في المواد المتقدمة أن القانون الواجب التطبيق هو قانون دولة معينة تتعدد فيها التشريعات فان القانون الداخلي لتلك الدولة هو الذي يقرر أي تشريع منها يجب تطبيقه.
إذا لم يوجد في القانون المختص نص في هذا الشأن, طبق التشريع الغالب في البلد في حالة التعدد الطائفي أو التشريع المطبق في عاصمة
تلك البلد في حالة تعدد الإقليم"
المبحث الثاني/استبعاد تطبيق القانون الأجنبي.
المطلب الأول /الدفع بالنظام العام.
تنص م24 ق م ج في جزئها الأول على عدم جواز تطبيق القانون الأجنبي بموجب النصوص السابقة إذا كان مخالف للنظام العام أو الآداب في الجزائر,والمقصود بالنصوص السابقة المواد من9الى23ق م
الفرع الأول /فكرة النظام العام
لم يكن دور النظام العام كأداة لاستبعاد القانون الأجنبي الذي أشارت إليه قاعدة الإسناد معروفا في القديم,بل كان دور النظام العام يستخدم أساسا كأداة لتثبيت الاختصاص للقانون الإقليمي ولم يبرز دور النظام بمفهومه الحديث إلا في القرن 19 على يد الفقيه الألماني سافيني.(1)
حيث يؤكد الفقه الحديث في مجموعه أهمية دور النظام العام كأداة لاستبعاد القانون الأجنبي الواجب التطبيق إذا تعارض مضمونه مع الأسس الجوهرية في المجتمع ,ففكرة النظام العام هي فكرة ذات مفهوم متغير باختلاف المكان و الزمان ,فما قد يعتبر متعارضا مع النظام العام في دولة لا يعد كذلك في دولة أخرى,و ما يصطدم مع النظام العام في داخل نفس الدولة في فترة معينة قد لا يعد أمرا منافيا للنظام العام في وقت آخر,فالنظام العام على هذا النحو فكرة مرنة ومتطورة يكتنفها الغموض و بالتالي يصعب تحديدها على وجه دقيق,إلا انه وبالرغم من إخفاق الفقه في ضبط فكرة النظام العام إلا أن الفقه ومهما كانت اتجاهاته فانه يلتقي في فكرة أساسية و هي استبعاد أحكام القانون الأجنبي الذي يتعارض تطبيقه مع الأسس السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية في الدولة.(2)
الفرع الثاني /شروط الدفع بالنظام العام
هناك ثلاثة شروط أساسية:
· يجب أن يكون هناك ثمة صلة بين النزاع المطروح وبين دولة القاضي.
· يجب أن يكون القانون الأجنبي واجب التطبيق وفقا لقاعدة الإسناد في قانون القاضي.
· يجب أن يكون القانون الأجنبي المطبق يختلف مع النظم العام في دولة القاضي.(1)
الفرع الثالث/آثار الدفع بالنظام العام.
1) الأثر السلبي :
نصت م24 ق م على استبعاد القانون الأجنبي المخالف للنظام العام أو الآداب في الجزائر وهو ما يقصد به الأثر السلبي للدفع بالنظام العام, لكن هناك من الفقه من يقول بالاستبعاد الكلي و هناك من يرى الاستبعاد الجزئي أي ينحصر استبعد القانون الأجنبي في الجزئية التي يتعارض فيها مع فكرة النظام العام في دولة القاضي,وهذا الرأي الراجح.(2)
2) الأثر الايجابي :
يتمثل الأثر الايجابي للدفع بالنظام العام في استبعاد القانون الأجنبي المخالف للنظام العام في دولة القاضي وتطبيق القانون الوطني لهذه الدولة(دولة القاضي)فهذا التطبيق للقانون الوطني هو ما يعرف بالأثر الايجابي للدفع بالنظام العام.
3) الأثر المخفف :
ويتعلق هذا الأثر بالحقوق التي تنشا في دولة أجنبية و تثار أمام القاضي الجزائري, فهل تكون لها آثار في قانونه إذا كان مخالف للنظام العام؟
إن القانون الأجنبي لا يستبعد في جميع الحالات التي يخالف فيها النظام العام لدولة القاضي إذا اكتسب الحق في الدولة الأجنبية, حيث يمكنه الاحتجاج بآثاره و هذا ما يعرف بالأثر المخفف للدفع بالنظام العام ومثال ذلك عدم تردد المحاكم الفرنسية في الاعتراف بآثار الطلاق الواقع في الخارج ولو كان قد تم بناءا على أسباب لا يقرها القانون الفرنسي ,بينما لا تقر هذه المحاكم إيقاع الطلاق في فرنسا لتعارضه مع نظامها الداخلي.(1)
4) الأثر الانعكاسي:
قد ينشا حق في دولة أجنبية وفقا لنظامها العام و خلافا لما يقضي به القانون الأجنبي المختص, فهل يمكن الاحتجاج بهذا الحق في بلد القاضي الوطني؟
مثال تزوج بولونيان في بلجيكا وفقا للقانون البلجيكي الذي حل
محل قانونهما البولوني المختص و الذي استبعد لمخالفته للنظام العام لأنه لا يسمح بالزواج بين مختلفي الأديان فهل يجوز التمسك بهذا الزواج أمام القانون الوطني للقانون المعروض عليه النزاع ؟
يذهب الفقه الحديث إلى التفرقة بين الحالة التي يكون فيها النظام العام للدولة الأجنبية متطابقا مع النظام العام في دولة القاضي والحالة التي يكون فيها غير متطابق معه, ففي الحلة الأولى يصح الاحتجاج بآثار الحق المكتسب في الدولة الأجنبية في دولة القاضي الوطن أما في الحالة الثانية فلا يمكن الاحتجاج بآثار الحق المكتسب في دولة القاضي لعدم تطابق هده المقتضيات مع النظام العام لدولة القاضي.(2)
المطلب الثاني/ الغش نحو القانون
قد يلجأ أطراف العلاقة إلى تغيير ضابط الإسناد وبتغييره يتغير القانون الواجب التطبيق. كتغيير الجنسية أو الموطن وهذا التغير في حد ذاته مشروع, ولكن قد يلجا أطراف العلاقة إلى تغيير ضابط الإسناد بشكل متعمد للتهرب من أحكام القانون المختص حقيقة بحكم المسالة. فيصبح قانون آخر مختص بحكم المسألة وهذا ما يصطلح عليه بالغش نخو القانون والذي يمكن تعريفه بأنه قيام أطراف العلاقة بتغيير أحد الضوابط الذي يتحدد بمقتضاه القانون الواجب التطبيق بشكل متعمد بقصد التهرب من أحكام القانون الواجب التطبيق أصلا.
الفرع الأول /نشأة الدفع بالغش نحو القانون
تعتبر القضية المشهورة في فقه القانون الدولي الخاص بقضية الأميرة "بوفرمون"و قد كانت السيدة البلجيكية الجنسية قد تزوجت من ضابط فرنسي هو الأمير "دي بوفرمون "فأصبحت فرنسية بالزواج ,وفي سنة 1874 أرادت هذه السيدة الطلاق من زوجها –الضابط الفرنسي-إلا أن القانون الفرنسي أنداك كان يمنع الطلاق ,فتجنست الأميرة بوفرمون بجنسية إحدى الدويلات الألمانية وهي دوقية :ساكس التمبورج سنة1875:و التي يسمح قانونها بالطلاق,فحصلت على حكم بالتطليق طبقا لقانون جنسيتها الجديدة و تزوجت في برلين بالأمير الروماني ببسكو وعادت إلى فرنسا وعاشت معه هناك,فرفع الزوج الأول –الضابط الفرنسي-دعوى إلى القضاء الفرنسي طالبا طلاقها منه , و بالتالي بطلان الزواج المترتب عليه.فقضت محكمة النقض الفرنسية في حكمها الصادر سنة 1878ان تجنس هذه السيدة بالجنسية الألمانية قد تم "غشا نحو القانون الفرنسي"(1)
ولقد فتحت هذه القضية الباب لاهتمام الفقه بفكرة الغش نحو القانون فهناك من أيد هذه الفكرة و البعض الآخر هاجمها لكن القضاء الفرنسي أيدها.
موقف المشرع الجزائري: قبل تعديل القانون سنة 2005 لم يتطرق المشرع الجزائري إلى هذه القضية لكن بعد التعديل سنة 2005, فقد نص على الغش نحو القانون في م24 من ق م
والتي نص "لا يجوز تطبيق القانون الأجنبي بموجب النصوص القانونية إذا كان مخالفا للنظام أو الآداب العامة في الجزائر, أو ثبت له الاختصاص بواسطة الغش نحو القانون".
الفرع الثاني /شروط الدفع بالغش نحو القانون
هناك شرطان متفق عليهما في الدفع بالغش نحو القانون , و هناك شروط أخرى مختلف فيها .
1. الشرطان المتفق عليهما للدفع بالغش نحو القانون :
أ- التغيير الإرادي لضابط الإسناد و هذا هو العنصر المادي و ذلك بان يتم تغيير الجنسية أو الموطن أو الدين أو موقع المنقول وان يكون هذا التغيير إرادي من طرف الغاش.
ب- توافر نية الغش نخو القانون فيجب أن تكون هناك سوء نية من طرف الغاش للهروب أصلا من أحكام القانون المختص أصلا بحكم العلاقة ,و هذا هو الشرط الذي اعتمده بعض الفقهاء في انتقاد هذه النظرية ,حيث يقولون بان البحث في النية يفسح المجال أمام القضاء للتدخل في طوايا النفس الإنسانية و التغلغل في خفايا الضمير ,مما يترتب عليه الاستبداد و الخطأ في إصدار الأحكام ,مع أن القضاء يجب أن يبقى في منأى عن البحث في النيات التي هي من نطاق الأخلاق لا القانون.(1)
غير انه ثبت يقينا انه بالإمكان الكشف عن الباعث في الكثير من الحالات ,حيث تعتبر قضية بوفرمون خير دليل على ذلك.
2. الشروط المختلف فيها:يمكنان نوجزها فيما يلي
أ- إن الغش نحو القانون يجب التمسك به فقط لصالح قانون القاضي ,أما إذا ارتكب الغش نحو القانون الأجنبي لا يجب التمسك به ,غير أن بعض من الفقه الحديث يقولون بضرورة التمسك و محاربة الغش نحو القانون وحتى و لو كان نحو القانون الأجنبي لان الغش هو غش .
ب- أن تكون الأحكام التي يريد الشخص التهرب منها هي أحكام آمرة, أما إذا كانت أحكام مكملة فلا يتحقق الغش نحو القانون, لان الأحكام المكملة يجوز للأفراد الاتفاق على مخالفتها.(2)
غير أن الفقه يرى أن الغش نحو القانون يتحقق حتى في الحالات التي يريد فيها الشخص التهرب من أحكام القواعد المكملة للقانون المختص حقيقية بحكم العلاقة.ذلك أن لهذه القواعد نفس صفة الإلزام للقواعد الآمرة, فإذا لم يتفق الأفراد عن مخالفتها كانت ملزمة لهم.(3)
ويضيف الفقيه نبوييه شروط أخرى ,حيث يشترط أن يترتب عن الغش نحو القانون نتيجة غير مشروعة .كما يشترط أن لا يكون هناك دفع آخر غير الدفع بالغش نحو القانون.
الفرع الثالث/أساس الغش نحو القانون
معلوم أن نظرية الغش نحو القانون عرفت انتشارا واسعا عند أغلبية الفقه, القضاء و لذلك فقد حاول الفقه أن يجد أساس للغش نحو القانون. فأرجعه بعض الفقهاء إلى نظرية الصورية في القانون المدني ,غير أن الفرق واضح بين النظريتين إذ أن الصورية تفترض وجود عقد ظاهري غير حقيقي يستر عقدا باطنيا حقيقيا,بينما في الغش نحو القانون تصرف ظاهره حقيقي أما الغرض منه فهو غير مشروع ,وهناك من الفقه من أرجعه إلى نظرية التعسف في استعمال الحق ,وقالوا أن المتعسف في استعمال الحق كالغاش نحو القانون ,إلا أن الفرق بين النظريتين واضح كذلك من خلال فريقين:
-أن من يتعسف في استعمال حقه يتعسف ضد مصلحة فردية ,بينما الغش نحو القانون يسيء إلى مصلحة عامة يمثلها القانون العام.
-أن الضرر الذي ينشا عن التعسف في استعمال الحق لا يصيب إلا مصلحة شخصية بينما الضرر الذي ينشا عن الغش نخو القانون يصيب مصلحة عامة.(1)
وقد أرجعه بعض الفقه إلى المسؤولية التقصيرية و البعض الآخر أرجعه إلى نظرية السبب غير المشروع ,غير أن اقرب أساس إلى المنطق هو التعسف في استعمال الحق مع ملاحظة الفرقين الذين ذكرناهما.
الفرع الرابع/الجزاء المترتب على الغش نحو القانون.
ويقصد بالجزاء المترتب عن الغش نحو القانون انه يشمل الغاية فقط؟أم انه يشمل الغاية و الوسيلة معا؟
و قبل التطرق إلى آراء الفقهاء في ذلك يبين أن اثر الغش لا يمكن أن يكون البطلان,لأنه لا يمكن لأي دولة أن تقرر ما إذا كان التصرف صحيحا أو غير صحيح في الدولة التي تم إجراؤه فيها ,و كل ما تملكه الدولة أن تعتبره غير نافذ داخل إقليمها و ليس البطلان .
و يرى غالبية الفقه في فرنسا أن الغش نحو القانون يشمل الغاية و الوسيلة ففي قضية "بوفرمون"مثلا لا يجب أن يقتصر اثر الغش على عدم نفاد الطلاق و الزواج الثاني الذي أبرمته وفقا لقانون جنسيتها الجديدة ,و إنما يجب أن يمتد إلى الوسيلة التي استعملتها و هي تجنسها بالجنسية الألمانية ,فتبقى بذلك فرنسية ليس بالنسبة فقط لتنازع القوانين و إنما في جميع المجالات الأخرى .
ويبرر الفقه شمولية الجزاء إلى الغاية و الوسيلة معا بأنه يؤدي من جانب إلى السهولة في تطبيقه,ومن جانب آخر إلى عدم مضاعفة بدون وجه حتى للجزء ليشمل آثار أخرى لم يكن الشخص المرتكب للغش قد أراد الإفلات بشأنها من أحكام القانون المختص أصلا بحكم العلاقة ,ويمكن أن نصنف محكمة النقض الفرنسية ضمن هذا الاتجاه الفقهي .إذ اعتبرت أن الأميرة "بوفرمون "لازلت في نظر فرنسا فرنسية ,و يعني ذلك أنها جعلت الجزاء يشمل الغاية و الوسيلة .(1)
أما الرأي الآخر من الفقه فيقول بضرورة ترتيب جزاء الغش نحو القانون يشمل النتيجة دون الوسيلة المستعملة.
و بالعودة إلى قضية الأميرة بوفرمون فانه يجب أن يقتصر اثر الغش على عدم نفاد تطليقها في فرنسا و كذلك زواجها الثاني دون تجنسها بالجنسية الألمانية و عليه فان جميع الآثار الأخرى غير الزواج و الزواج الثاني و التي يمكن أن تترتب على اكتسابها للجنسية الألمانية فلا يجب أن يمتد إليها اثر الغش .مثلا الأهلية ستخضع لقانون جنسيتها الجديدة و هي الألمانية ,لأنها لم تقم بتغيير جنسيتها للتهرب من أحكام القانون الفرنسي بشان الأهلية و إنما تهربت منه لأجل الطلاق و الزواج الثاني فقط.(2)
غير أن هذا الرأي منتقد لمجافاته للمنطق القانوني السليم إذ يؤدي إلى إنشاء آثار قانونية تنتج آثار متناقضة,الغاش يبقى منتمي للقانون الذي تهرب من أحكامه بالنسبة للنتائج التي أراد تحقيقها بتغييره لضابط الإسناد في نفس الوقت يخضع لقانون جنسيته الجديدة بالنسبة للآثار الأخرى.
الخـــاتمة :
من خلال كل ما سبق ذكره نستخلص أن المشرع و إن كان قد سمح بتطبيق القوانين الأجنبية على إقليمه من خلال وضعه لقواعد الإسناد فانه من غير المقبول و المعقول أن يطبق القاضي الوطني قانونا أجنبيا يكون مخالفا للنظام العام في دولته أو منطويا على غش نحو القانون .و بهذا تكون كل من فكرتي النظام العام و الغش نحو القانون بمثابة صمام الأمان الذي يحمي الأسس الجوهرية التي يقوم المجتمع عليها.