2-الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه
أ/بشارة النبي صلى الله عليه و سلم به :
عن
أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: " يوشك
أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم، فلا يجدون أحداً أعلم من عالم
المدينة "، أخرجه الترمذي وهو حديث حسن صحيح. قال العلماء: وعالم المدينة
هو مالك بن أنس وهو الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم.
ب/ميلاده ونسبه و نشأته و طلبه للعلم:
ولد
مالك بن أنس عام 93 هجري و توفي عام 179 للهجرة. ولد في المدينة المنورة
من أسرة أصلها من اليمن و كانت أسرته هذه أسرة علم، والده أنس كان عالماً و
اسم جده مالك أبو عامر الأصبحي و كان مُحَدِّثاَ وراوياً سمع الحديث من
أبي بكر وعمر وعثمان وكثير من الصحابة رضي الله عنهم. ولقد روى مالك الحديث
عن أبيه وجده. ويروى أنه ذات ليلة وقد اجتمع أفراد أسرة مالك على عادتهم
متحلقين حول الأب يسرد عليهم بعض وقائع أيامه وأحداثه، سأل الوالد أبناءه
سؤالاً في الدين فأجابوه جميعاً إجابات سليمة صحيحة عدا مالك الذي عجز
وتلجلج و كان في العاشرة من عمره قد حفظ القرآن الكريم وشيئاً من حديث رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلا أنَّ عقله في مثل سنه لم يكن ليسمح له بالفهم
والعلم ن فعجز عن الجواب فعنَّفه أبوه أنس ووبخه ونهره لانشغاله باللعب عن
طلب العلم. وانفجر مالك بالبكاء و هو يأوي إلى صدر أمه، فضمَّته إليها
وعانقته ولاطفته وخففت عنه ما به من حزن و ألم و في اليوم التالي شدَّت على
رأسه عمامة جديدة وضمَّخته بأطيب العطر وأشارت عليه بإتيان مسجد الرسول
الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم والجلوس إلى حلقات العلم المنتشرة هناك
ودعت له بالخير وبالتفقه والفهم والحفظ . ومنذ ذلك اليوم لازمته عادة
الاستحمام والتطيب كلما أتى مجلس العلم سواء كان متعلماً أو معلماً فيكون
في أحسن سمت وأكمل مظهر وأرقى صورة، و دخل مالك بوابة العلم الكبرى ولم
يغادرها حتى توفاه الله تعالى. و كان يجد نفسه بحاجة إلى مزيد علم، فقد كان
يهمه أحياناً أمر علمي أو مسألة فبعد أن تنفضّ الحلقات ويأوي الشيوخ إلى
دورهم فلا يجد مالك صبراً إلى الغد كي يسأل و يفهم لذا راح يسعى إلى الشيوخ
في بيوتهم و مساكنهم وقد ينتظر أحدهم في الطريق الساعات الطوال ما يجد
فيها ظل شجرة تقيه حرارة الشمس حتى إذا ما رآه يدخل داره ينتظر لحظات ثم
يقرع الباب وكان في بعض الأحيان يحمل معه تمراً يهديه لجارية الفقيه
لتمكِّنه من الدخول على العالم.
وتعلق بالعلم تعلقاَ جاداَ فلزم عبد
الرحمن بن هرمز و هو عالم من أجلِّ علماء المدينة سبع سنوات لم يتخلَّف
فيها إلى غيره وكان يأخذ عنه المسائل الإجتهادية وقضايا الفقه وكان بن هرمز
مشهوراَ بقوة عارضته ودلائل الحق ويقول الإمام مالك عن نفسه أنه اتخذ
لنفسه ما يشبه الطرّاحة الصغيرة، كان يأخذها معه فيجلس على صخرة أمام دار
ابن هرمز و لم يكن يطرق بابه خوفاَ من أن يزعجه منتظراَ خروج الإمام يعني
ابن هرمز إلى الصلاة، فإذا خرج اتبعه وذهب معه إلى المسجد.
ثم بدأ يأخذ
عن نافع مولى ( أي خادم ) عبد الله ابن عمر وكان من أحفظ علماء الحديث، كان
حافظاَ وكان فقيهاَ، أخذ الفقه والحديث عن ابن عمر.
ثم أخذ مالك أيضاَ
عن الزهري وكان يلازمه كما لازم ابن هرمز وكان يسير معه من بيته إلى
المسجد. يقول الإمام مالك عن نفسه: كنت أخرج من وقت الظهيرة وليس للأشياء
ظل أتيمم درساَ عند الزهري.
أخذ مالك الحديث عن الزهري مع قلة من إخوانه
ويقال إن الزهري حدَّثه في يوم من الأيام نيفاَ وأربعين حديثاَ له ولبعض
زملائه، فلما عادوا في اليوم التالي قال الزهري أستحضرتم كتاباَ لتسجلوا ما
أُملي عليكم خيفة أن تنسوها؟
فقال قائل منهم ينبؤك عنها هذا الشاب
الأشقر ( أي الإمام مالك )، فسأله الزهري فتلى عليه منها أربعين حديثاَ مع
أسانيدها فقال الزهري: والله ظننتُ أنَّ أحداً يأتيها غيري (أي لا يحفظها).
وكان الإمام مالك إذا جلس لتلقي الحديث يسجل الحديث وهو جالس ولما
سُئِلَ هل أخذتَ من عمرو بن دينار قال لم آخذ وذلك لأني ذهبتُ إلى مجلسه
فرأيته يُحَدِّث والناس حوله واقفين يكتبون عنه فلم أحب أن أكتب حديث رسول
الله صلى الله عليه وسلم وأنا قائم لأنه كان يرى في هذا منقصة لحديث رسول
الله صلى الله عليه و سلم.
و تلقى الإمام مالك الفقه عن شيخه الكبير ربيعه الذي كان يُلَقَّب " بربيعة الرأي " مع أنه كان من علماء أهل المدينة.
ج/من أقواله:
- كلما كان رجل صادق لا يكذب في حديثه (أي مطلق حديث) إلا مُتِّعَ بعقله ولم يصبه مع الهرم آفة و لا خرف.
- من لم يكن فيه خير لنفسه لم يكن فيه خير لغيره.
إنتهينا
من الحديث عن الإمام مالك وفقهه والسبب الذي جعل مذهبه ينتشر ويترسخ في
كثير من أنحاء العالم الغربي والإسلامي وعرفنا كيف أنَّ اجتهاد الإمام مالك
زاد في التقريب بين مذهبي أهل الحديث في الحجاز وأهل الرأي في العراق.
وعرفنا لماذا نَمَت مدرسة الحديث في الحجاز و لماذا نمت مدرسة الحديث في
العراق. تكلمنا أيضاً عن دور الإمام أبي حنيفة والإمام مالك في نسج شجون
الصلة بين هذين المذهبين في الشكل الذي ذكرناه و انتهينا إليه. والآن ننتقل
إلى الكلام عن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى.
د/وفاته :
توفي
الإمام مالك في أوائل عام 179 هـ عن 87 سنة في الأرض التي لم يفارقها قط
إلا للحج حباً وشوقاً للنبي صلى الله عليه وسلم. وقد بقي مفتياً للمدينة
مدة ستين سنة. وكان من أبلغ الناس حزناً عليه وأشدهم بكاءً تلميذه النجيب
ووارث الإمامة من بعده محمد بن إدريس الشافعي . ولقد دُفِنَ مالك رضي الله
عنه في البقيع .
وكان الإمام مالك قد ترك حضور الجنازات في آخر حياته
وكان يأتي أصحابها فيعزيهم ثم ترك ذلك كله و لم يشهد الصلوات في المسجد ولا
الجمعة أيضاً، فعوتِبَ في ذلك فقال: ليس كل الناس يقدر أن يتكلم بعذره.
وعُلِمَ بعد ذلك أنه كان قد اُصيبَ بسلس البول و كان يخشى أن يُنَجَّسَ
مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال وهو يودِّع الدنيا: لولا أني في
آخر يوم من الدنيا وأوله من الآخرة ما أخبرتكم، سلس بولي، فكرهت أن آتي
مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على غير طهارة إستخفافاً برسول الله صلى
الله عليه و سلم و كرهت أن أذكر علَّتي فأشكو ربي!!!.